تهويلُ النصّ الشّعري

 

الملحق الثقافي:علاء حمد*

نتطلّع إلى النصّ الشعريّ، كمنظورٍ معرفيّ وحتميّ؛ أي ننحو نحو صفوَتَه من خلال أربعة اتجاهات، طالما أننا في منطقة تهويلِ النصّ الشعريّ، كعلاقة حتميّة بينه وبين اللغة الرمزيّة، واللغة السريالية، وكذلك لغة اللامحدود؛ حيث تتشعّب الاتجاهات ولكنها تلتقي في المحور النصّي، الذي يصبح جامعاً للاتجاهات اللغويّة من جهة، واتجاهات التأويل والاستدلال من جهة أخرى..
نبحثُ عن مبدأ التأصيل الجينالوجي، في الذات الحقيقية، والنصّ الشعري الحقيقي؛ ومن الممكن أن نطلق على ذلك، المنظور المغاير في الحجاج، ونسندُ التواصل النصّي ككينونةٍ متطابقة مع الفعل والتفكيك، لذلك وزعت بعض الحالات على مناطق عديدة، وكلّ منطقة لها علاقة مع منطقة أخرى، ويتواصل النصّ الشعري من خلال هذه المناطق التي اعتمدت المنظور التفكيكيّ.
المنطقة الأولى: علاقة اللغة
كاتّجاهٍ نصّي، تقتحم اللغة من خلال علاقاتها في بؤرة النصّ الشعري، ولهذا تفسّر واقع النصّ وتقويله؛ وتحمل المعاني والتأويلات، فاللغة منها الطبيعيّة والرمزيّة والسرياليّة، ومن الطبيعي أن تلبس ثياب التأويل وهي تتنشّط مع أهداف النصّ الشعريّ، وتكوّن علاقاتها الدلالية بينها وبين الأشياء الخارجية، وبينها وبين المنظور الحسّي، فيكون للمحسوس النصيب الجزئي بإطلاق الإشارات، وتدخلات الذات في الحسيّة الإدراكية، وكذلك تجمّع الأفكار المبعثرة التي تؤدّي إلى تجربة الشاعر، ليطرحها بلغةٍ جديدة بالمنظور النصّي. وتعتبر اللغة من العناصر العالقة بالذات، وتحتلُّ المرتبة الأولى من ناحية التفكير اللغويّ، أو الميول إلى اللغة الإدراكية، ولهذا يُنظر من جديد إلى الجملة الشعرية التي تعتبر من جزئيات النصّ الشعري، فالوظيفة الجديدة التي نقصدها، ليست فقط البناء وما يسبقه الهدم، بل هناك وظيفة المبادئ المشتركة في اللغة الإدراكية، ومن خلال هذا المنظور نلاحظ تدخل الوظيفة النحوية «التلاعب باللغة والحركات، والتقديم والتأخير»، وكذلك الوظيفة التداولية، من خلال المعنى في سياق النصّ.
يتمكّن الشاعر مع كلّ ذاتٍ جديدة، من فتح أبواب اللغة وتنشيطها، كي يفسح المجال للمعلومات المخزّنة، لأخذ نصيبها ضمن اللغة الشعرية المرصودة؛ وهي استعادة موجزة لإنشاء ظروفٍ ملائمة ونشطة، تعني اللغة قبل كلّ شيء؛ وفسح المجال للتداوليات والأبعاد الرمزية، أن تستخلص القواعد التركيبية للجمل المتواصلة. «تذهب اللسانيات الإدراكية إلى أنّ اللغة ليست نتاج بنى خاصة في الدماغ، وإنما هي نتاج كفاية إدراكية عامة يستعملها البشر في تفكيرهم؛ من أجل وضع تصورات لكلّ جوانب الواقع وتجربتهم فيه، ما يلفت النظر إلى طريقةِ فحص العلاقة بين اللغة في الاستعمال الأدبي، واللغة في الاستعمال التواصلي المعتاد، وإلى فحص ظواهر لغويّة معينة، كاللغة التخييلية التي لم تعد تُفحص على أنّها نتاج آليات خاصة، أو أنها تنبع من موهبةٍ إدراكية مقصورة على مبدعي الأدب. (1).
المنطقة الثانية: علاقة النصّ بالتقليلية الزمنية – اللغوية
موضوع التقليلية التي جاء بها الشاعر الفرنسي «ستيفان مالارميه»، قُصد به زمنية النصّ الشعري، وخضوع النصّ إلى نوعيته وليس إلى تواجده، فهناك الكثير من النصوص متواجدة ويتداولها أصحابها ولكن لا قيمة لها. ولكي ندخل بعد زمن طويلٍ، وما طرحه الشاعر الفرنسي «مالارميه»، هناك الزمن التقليلي في النصّ الشعري، وهو قريب جداً من المقاربات التي سبق وأن كتبت عنها بمواضيعٍ عديدة. ولكن؛ نتواصل الآن مع الشكل التقليلي الزمني والتقليلي اللغوي في شراسة اللغة الرمزية، باعتبار أنّ «مالارميه» كان زعيم الرمزية في فرنسا، وهو الزمن الذي مرّ به الشاعر، لذلك ومن خلال هذه الخصوصية، فقد اعتنى بالرمزية الأحادية التي يميل الكثير من شعراء النصّ الشعري الحديث، إلى مدرستها ذاتها.
إنّ الإنتاج اللغوي الذي يعمل على مجموعةٍ كاملة من الاحتمالات اللغوية، يكوّن للتقليليةِ منظورها التعييني، ما بين تلك الاتجاهات المعنية، فاختصار الزمن وليس مطّه، وحجمه وليس تقليصه، من أهميات العمل التقليليّ الزمنيّ في اللغة المعتمدة للنصّ الشعري الحديث، لذلك نعمل على دائرة تكثيفية، والقبض على الذات الرامزة في التوجيه التقليليّ للنصّ الشعري، فنكون مع البعد الأحادي للذات، لا تشاركها ذاتٌ أخرى في التوجيه الرمزيّ الذي ترغبه في النصّ. أما التقشف اللغويّ الذي يلتقي مع التقليلية في النصّ، فله مفعوله البدائي، فالموضوع هنا ليس «قلة الكلمات المؤسّسة للجملة الشعريّة»، وإنما تكثيف اللغة بقوّةِ الرموز المتداخلة في الجملة، ولا نستبعد أفعال الحركة الانتقالية التي تساعدنا على تقليل البعد المنظوري للنصّ الشعري، وتجعلنا نختصر الكثير من المهام المساعدة لحركته..
ومن خلال المنظور التقليلي، نلاحظ الصورة المفاجئة التي تخرج من خلال لحظويةِ الذات ونضجها، باندفاعٍ تام على إيجاد صورٍ عجائبية ومفاجئة، وتعتمد هذه الصور على الأبعاد الرمزية، أو ما وراء الواقع واللغة المختلفة من خلال اللامحدود؛ وذلك لشدّة شراسة الخيال فيها، واندفاع الكائن المتخيل. بعض الأمثلة التي تؤدي إلى التقليل الزمني للذات اللحظوية:
أشدّ لساني نحوك – اقترابٌ رمزي
بندقيةٌ عرجاء – اقترابٌ سريالي
وجهٌ متصدّع – اختلافٌ لغوي ..
نلاحظ أن هذه الاتجاهات من خلال الأمثلة، قد قلّصت الزمنية في الجمل الشعريّة، عبر تركيب بعض الكلمات التي اعتمدت المفاجأة والتقشف اللغوي. جميع الاتجاهات اللغوية، تحمل لغة الاختلاف، والأمثلة التي رسمتها تكون مجتمعة في بعض الأحيان بنصّ واحد، وهذا لا يهم أبداً، بل يزيد النصّ الشعري كجامعٍ للاتجاهات الحركية والمنشطة .
الزمن التقليلي:
الزمنية التقليلية تعتمد على البعد الزمني، كأن نكون قبل ساعة أو ساعات أو أيام، فهنا الخاصية تحضر من خلال البعد التقليلي، فبعض النصوص تحتاج للعملِ عليها إلى أشهر، وحتى سنة، ويحدث هذا الزمن ضمن المنظومة القديمة واقتناص اللحظات الزمنية، ولكي نختصر هذه الخصوصية تحضر الزمنية من خلال زمنية الشاعر، فإن كان في الماضي البعيد، تحضر الآن، باعتبار أن الشاعر آنيّ، وإن كان الزمن بالماضي القريب، فيكون حضوره الآني أكثر تأثراً، ولا يحتاج إلى التذكر الفلاش باك.
المنطقة الثالثة: علاقة الحياة بالبيئة
النصّ كائنٌ ذاتي – حياتيّ قبل كلّ شيء، لذلك أقرب منطقة لانطلاقه هي الذات، وأوسع العوالم الذي يغيّر بوصلتها هي الحياة، وألمع منطقة متواصلة هي بيئته، ومن خلال هذه الاتجاهات العديدة، نلاحظ أنّ النصّ الشعري يعتمد التجربة الحياتية – الكتابية، وهي تؤدي إلى تجربة الشاعر الكتابية، لذلك نقول :إنّ الشاعر صاحب تجربة شعرية، أي مارس الشعر لفتراتٍ طويلة، وقد اعتنى بأقرب المناطق التي تلامس مشاعره المباشرة ومنظوره غير المباشر، وهو يعكس تجربة الآخرين عبر لغة الـ « أنا « ومن خلال الذات التي تمثل ذوات الآخرين أيضاً.
يشكّل بيئة الشاعر في المنظور القصائدي؛ المضمون القصديّ بالنسبة لتواجده كحالةٍ منظورة ومرصودة من قبل ذاته، وذوات الآخرين أيضاً، فالمشهد البيئي يشكّل العلاقة الديناميكيّة بينه وبين الأشياء التصويريّة التي تمثل الاعتقاد، لذلك ينطلق من تصوراتٍ قريبة إلى الذات العاملة، والتغييرات التي يحصل عليها ضمن انتقالاتِ الفعل القصدي، ماهي إلا أبعاد يتبناها في المنظور النصّي، ويسعى للاقتراب منها لرسمِ توازنات متشابهة، بين بيئته والعالم الخارجي.

منطقة اللاشعور: اللاشعور الفردي
يكون الشاعر منتمياً إلى ذاته الحقيقية، التي تواجدت لتنطلق من مبدأ يوميّ، إلى مبدأ مخالفٍ للحياة اليومية، لذلك ينطلق للحصول على مبدأ اللاشعور في الخلق الشعري، وفي نفس الوقت يكون في منطقة اللاشعور، وذلك عن طريق التعبير التلقائيّ الحرّ (التداعي الحر)free association .
اللاشعور في الكتابة يعني أن الذات وصلت إلى حقيقتها، ومن خلالها يستطيع الشاعر الوصول إلى اللاوعي الكتابي، فيصل الخيال إلى درجاتٍ قصوى، درجات حدّ الجنون، ومن خلاله يرمي الشعور المنظور المباشر جانباً، فيتّحد في منطقة اللاشعور للوصول إلى الكتابة الآلية (2) خارج الرقابة، والتي أكد عليها السرياليون في بحوثهم وممارستهم للخلق الشعري. «ليس في الحقل الذهني خلقاً تلقائياً أكثر مما في العالم المحسوس، فالكلمات والصور جميعها التي يستخدمها وعينا، تنطلق من خزانٍ ضخم يسميه «فرويد» اللاوعي، والأصح أن ندعوه «ما تحت الوعي»، مثلما فعل «مايرز»، والوعي يسجلها ويدرك بالحسّ، أصوات العالم الخارجي ورؤاه، فهو لا يبتدعها، بل يحيط بها علماً بإسقاطها على شاشته المضيئة لأن وجودها سابق لهذا الإدراك».. (3).
ترى السريالية أنّ اللاشعور يتوسّع عبر اللاوعي واللامرئيّ، والأحلام والأشياء المكبوتة، لذلك تعمل على تحرير اللاشعور، والكتابة الشعرية تحتاج إلى هذا المنظور التحرريّ، كي تكون مع مبدأ الأحلام وأحلام اليقظة، ومن خلالهما، يبني الشاعر بنيته القصديّة، ويذهب مع فعل المتخيل كي يحتل العمل الموازي في لغة اللامحدود، ويحرّر اللغة من عوامله المشروطة، لذلك يسعى إلى الغوص في الاختلاف اللغوي، ليعكس الحياة البائسة ويفرش أنواع الابتسامات؛ كابتسامة الحزن أو الاعتراض أو الفرح والتفاؤل، بل وابتسامة الاستهزاء (السخرية)، فالشاعر يرى من الحزن حالة استهزاء، وفي كثيرٍ من الأحيان يسخر منه ليكسب القوة والنشاط، ومن الفقر حالة البؤس، ومن الفرح حالة اليأس، فهذا المنظور يرافق لغة الاختلاف في العمل السريالي، وفي لغة اللامحدود في النصّ الشعريّ الحديث.
……………..
1- مجلة فصول العدد 100 الإدراكيات – ص 142 – لارزيا بيليخوفا -ترجمة وتقديم: محي الدين محسب.
2- السريالية، هي الآلية النفسية المحضة التي يبغي المرء عن طريقها، التعبير شفوياً أو كتابياً، أو بأيّ طريقة أخرى، عن عملِ الفكر الحقيقي، وهي ما يملي الفكر بعيداً عن أيّ رقابة يمارسها العقل. البيانات ص 45.
3- أندريه برياتون والمعطيات الأساسية للحركة السريالية – ميشيل كاروج -ترجمة: الياس بديوي. ص 138
* كاتب وشاعر عراقي

التاريخ: الثلاثاء29-6-2021

رقم العدد :1052

 

آخر الأخبار
سورية وإندونيسيا.. شراكة رياضية تنطلق بثقة تعاون مع اليابان في مجالي الإنذار المبكر والرصد الزلزالي مهرجان التحرير الأول يضيء سماء طرطوس.. وعروض فنية ورياضية مبهرة  عودة أكثر من 120 أسرة إلى قرية ديمو بريف حماة الغربي ضوابط القيد والقبول في الصف الأول الثانوي للعام الدراسي القادم نضال الشعار  .. الوزير الذي ربط الجامعات بالوزارات؛ والناس بالاقتصاد   "عمال درعا".. يطالب بتثبيت العمال المؤقتين وإعادة المفصولين  عناية مميزة بقطاع الخيول في حلب الشيباني: العلاقة مع كرواتيا ستكون متعددة الجوانب.. غرليتش رادمان: ندعم استقرار سوريا "ساهم".. تعزيز ثقافة الحفاظ على البيئة في إعزاز  طرطوس تكرّم متفوقيها في الشهادتين  بنزين ومازوت سوريا.. ضعف العالمي وأغلى من دول الجوار  نائب أميركي: حكومة نتنياهو "خرجت عن السيطرة" بعد هجوم الدوحة السعودية:الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا انتهاك للقانون الدولي "أهلاً يا مدرستي".. تهيئة الأطفال للعام الدراسي مباحثات استثمارية بين سوريا وغرفة التجارة الأميركية "المعلم المبدع".. في درعا إدانات دولية متصاعدة للعدوان الإسرائيلي على قطر: تهديد للأمن الإقليمي "الشمول المالي الرقمي".. شراكة المصارف والتكنولوجيا من أجل اقتصاد واعد الشيباني يستقبل وزير الخارجية الكرواتي