الملحق الثقافي:سهيل الذيب:
الفرات يضجُّ بالحياة، ولعلّه أحد أنصاف الآلهة. ذابَ وتحوّل إلى حبٍّ وماء.
في الحروبِ لا نجاة للفردِ من دماره الداخليّ
ربّاه كم عدواً نواجه، وكم جزّاراً كان ينتظر سقوطنا!
أراد الأصوليون محو الذاكرة الشعبيّة، لتحلّ محلّها ثقافة الجاهليّة
أخبرها أبوها مرة: جدّك “مفلح” كان فارساً نشميّاً، قاوم محاولة الاحتلال العثمانيّ بتتريك الكتاب واللغة. لوحق وعاش متخفيّاً طريداً، وباءت محاولات اعتقاله بالفشل. بعدها، أحكمت فرنسا قبضة استعمارها، فقاتلها بالسلاح مع عشرات المقاتلين، إلى أن وشى به أحد أبناء عمومته. كانت جدّة أمك تأخذ جدتك “شهلا” ذات السنتين، لزيارته في الأسرِ ببئرِ ماءٍ خشية أن تكون الجدران هدفاً لرفاقه، وكانوا يُنزلون “شهلا” في دلو ماءٍ ليقبّلها والدها، ويغنّي لها، وحين يعلو صراخها يشدّ الحبل، فيسحبون الدلو ويفتِّشون الطفلة، مخافة إرسال أي إشارة للمقاتلين.
فاتحةٌ كوجبةٍ شهية لعملٍ روائيٍّ، رغم أنه العمل الأول للكاتبة “نورا محمد علي”، إلّا أنّها امتلكت ناصية الفنِّ الروائي بجدارةٍ تحسب لها، فمنذ الإهداء الوحيد لزوجها “إدريس مراد” حبيباً وصديقاً ونهراً، ولجنا في بحرٍ من الروي، ونهر من العشق والوفاء.
في البداية، جاءت لزيارةِ أهلها على ضفّة الفرات، وحين مغادرتها غاصت في خضمِّ الحكاية التي ترويها بلسانها. إنّها تشبه المذكرات في بوحها الشفيف، الذي بدأته بالحديث عن علاقتها بـزوجها “شيركو” الذي استمر عشقهما خمس سنوات في الجامعة، فهما خريجان من قسم اللغة العربية، ويسكنان في حارةٍ شعبية، هو تقوده الحواس وهي تتبع روحها، وتعمل مدرِّسة في معهدٍ خاص.
تبدأ حياتها في دمشق التي لا يشبه صوتها صوتٌ، فهي تتلقّف القادمين من أوّل خطوةٍ يخطونها. تدعى إلى اجتماعٍ غير مرخّص به لعدّة نساءٍ، فتثور ثائرة زوجها، وإذ أصرّت على موقفها، انتهى النقاش ككلِّ خلافٍ بين زوجين، بـ: “تصبحين على خير”.
سادت البرودة بينهما فترة طويلة، بسبب فكرين جعلتهما الحرب متناقضين، وإذ قررت “ورد” بطلتنا، أن تعيد الأمور إلى نصابها، ذهبت إلى محلٍ للزهور، كانا يرتادانه حينما كانا عاشقين.. ذهبت لشراء وردة له، فجنّ جنونها إذ وجدته في المحلّ نفسه، يشتري وروداً لامرأةٍ تتأبّط ذراعه. انهار زواجهما شكلاً وبقي على الورق، في هذه الأثناء تقرّر ترك عملها والعمل في مكتبةٍ تقع في فمِّ الجحيم، حيث تتساقط قذائف الإجرام على دمشق، وحيث البلاد على موعدٍ مع آلافِ الأبواق الإعلامية المعادية، وحيث القتل على الوظيفة الحكوميّة والمذهب والدين.
كان يرتاد المكتبة “سعد كامل”. الروائيّ الذي يصعب على أنثى مقاومة سحره وجاذبيته، فتنشأ بينهما صداقة سرعان ما تتحوّل إلى حبٍّ جارف، يجعلها تطلب الطلاق من زوجها، وتتزوج “سعداً” رغم اختلاف دين كلٍّ منهما، ليكون مهرها كتابٌ ووردة.
غزا المجرمون قريتها، فأصرّت على جلبِ أبيها وأمها وجدّتها “شهلا”، رغماً عن الخطر الشديد الذي سيحدِّق بها. انطلقت تصارع الخوف والمجهول، وإذ رآها العراف المسكين في مرآب البلدة قال لها: بعد أن متِّ مرة ستموتين مرتين أخريين.
استطاعت أن تجلب عائلتها بعد أن أجبرت على رؤية صديق “سعد”، الشاعر “بشر”، وقد قُطع رأسه في ساحة القرية. رفضت جدّتها أن تأتي معها، وكان الزهايمر قد اعتراها بسببِ المعارك الشرسة. استمرت الرحلة إلى حمص ثلاثة أيام، والعائلة مختبئة تحت القشِّ خشيةً من بطش “الثوار”. قدمت لـ “سليم المصري” أرض أبيها، مقابل توصيلهم إلى دمشق، وهو نفسه الذي سيأخذ البيت، أجرة إيصالها إلى ألمانيا، فقد ماتت أمها في البحر، وحملت هي من “سعد” الذي طلب منها مغادرة البلاد بعد أن ألقي القبض عليه.
في الملاحظات النقدية
– مشبعة هذه الرواية بالسردِ الشائق، وإن بدا مملاً في بعضِ المواقع بسبب طغيان الراوية على كل أحداثها، فهي المتحدِّثة المطلقة ولا صوت مسموعاً إلاّ صوتها، ففي الوصف الطويل، يمكن إجراء حوارٍ يخفّف من الملل الذي سيعتري القارئ حتماً.
– تزوجت “ورد” ثلاث مرات، من رجالٍ متباينين فكراً وسلوكاً، فـ “شيركو” أكثرهم توازناً وحكمة ومعرفة، بما يجري في ساحات الوطن، ولا سيما عندما أصبح محلِّلاً سياسيّاً ذائع الصيت، لكنّه خانها.. و”سعد كامل” رجل مثقف لكنه لا يتعاطى السياسة، وهو وسيم وكريم وساحر.. أُغرم بها وأغرمت به، فتزوجها سرّاً بعد أن قرّرا السفر إلى بيروت لعقد زواجٍ مدني. ألقي القبض عليه، بعد أن وشى به وشاية كيديّة، الشاب اللطيف الذي كان يعمل لديه في المطبعة، سُجن وخرج من السجن بعد شهرٍ، مُحطَّماً يعاقر الخمرة ولا يصحو أبداً.
الزوج الثالث المفاجئ، كان “سليم المصري” المخاتل المراوغ الطماع الذي لا يتوانى عن أيّ فعلٍ في سبيل مصلحته، والذي بسبب معارفه الكثيرة استطاع أن يجمع ثروة من خلال تهريب الأشخاص أو خطفهم أو قتلهم، كما فعل مع الشاعر، اكتشفته “ورد” مبكراً فكرهته وحقدت عليه، وإذا بها تفاجأ به يعيش في شقةٍ بجوارها في المدينة التي سكنتها في ألمانيا. تحنو عليه بعد أن انهار صحيّاً ونفسيّاً، فيعيد إليها أرضها وبيتها، مدّعياً بأن حبّه الكبير لها، هو ما دفعه للحاقِ بها إلى ألمانيا.. يقنعها بالزواج منه، بعد أن طلب منها أن يكون أباً لابنتها، توافق على الرغم من أنها كانت تعرف أنه مريض.
– طبعاً، الرواية تدين الحرب، فكلّ أبطالها طحنتهم بانعكاساتها ومآسيها بشكلٍ أو بآخر، فمنهم من أصيب بالزهايمر كوالدها وجدتها، ومنهم من قُتل، ومنهم من شُوّه بقذيفةٍ كصديقتها “هالة” التي طلّقها زوجها إثر ذلك. وأكثرهم إمّا شُرِّد وابتلعه البحر كأمّها، وإمّا نجا بأعجوبةٍ كـ “ورد” و”سليم”، الذي فقد رجولته.
وحدها “ورد” ورغم مأساتها الكبيرة، ظلّت نمرة قويّة، جابهت كلّ المحن وانتصرت عليها، لكن هزيمتها الكبرى كما أرى، في زواجها من رجلٍ له ماضٍ إجراميٍ ومريض في الوقت ذاته، فهل تكفي الشفقة لتكلّل أيّ زواج بالنجاح؟!.. أعتقد أنّها ستطلّقه بعد حين، أو لا شكّ أنّها ستخونه على أقلِّ تقدير..
– بودّي أن أنبّه الكاتبة – وهذا ليس من وظيفتي النقديّة، لأن من حقِّ الكاتب أن يكتب كما يفكّر ويرى- إلى أنّها استخدمت بعض العبارات والكلمات التي لا مسوّغ لها كما أعتقد، لأنّها لا تقدّم ولا تؤخر.
– على الكاتب، ولا سيّما كاتب الأدب، أن يتقن اللغة التي يكتب بها، وإلاّ فليعرضها على من يتقنها، فالخطأ الإملائيّ أو النحويّ، يقلّل من بريقِ أيّ عملٍ أدبيّ، مهما كان متقن الصناعة.
في النهاية، أرى أنّ الكاتبة قدّمت شيئاً مهمّاً عن الحرب على سورية، فالكتّاب والروائيون خاصة، هم مؤرخون جيدون، أو يفترض بهم أن يكونوا كذلك، لأنهم صادقون ويكتبون بما تمليه عليهم ضمائرهم وعواطفهم.
الرواية من إصدارات دار بعل عام 2021، وتقع في نحو مئةٍ وسبعين صفحة.. صمّم الغلاف الفنان “زهير حسيب”، وهو عبارة عن لوحةٍ لنساءٍ يحملن أطفالهنّ وسط البحر والقرش..
التاريخ: الثلاثاء29-6-2021
رقم العدد :1052