الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
طريقُ النضال للوصول إلى النصر، له نتيجتان حتميّتان: إما الشّهادة وإما الأسر.. وربّما كانت الشهادة طموحُ كلّ المناضلين، وأهون الخياراتِ على الإطلاق.. لأن في الأسرِ عذاباً أكبر، إذ يقف المناضل أمام عدوّه وجهاً لوجه، وأمام حقيقة نفسه، وحقيقة الرفاق.. ويبدأ التحدّي على كافة الصعد، الجسديّة، الفكريّة، الأخلاقيّة، وأهمّها النفسيّة، وإذا كان الموت حتميّاً في كلّ تجلّياته، فإن موتاً آخر يختبئ تحت جلدِ المحقّقين، ويصبح التعذيب أقل طلباً من الموت، والبشاعة تكمن في طريقةِ القتل، والكيفيّة التي توصل إلى موتٍ مُحقّق..
في هذه الحالة يسير الموت ملاصقاً روح وحياة كلّ المعتقلين، في كلِّ لحظةٍ يعانقون شرفاً ولا يصلون إلى الموت.. وهنا يتبادر إلى الذهنِ سؤالٌ:
“ما الأثر النفسيّ والجسديّ على الأسير، نتيجة التعذيب والمعاملة القاسية التي يعامله بها العدوّ السجّان؟…
ربما لا نستطيع الإحاطة بموضوعٍ شائكٍ كهذا، ولكن يمكن أن نحاول ملامسة الجوانب الأكثر إيلاماً، ويمكن القول إن الوحدة النفسيّة والجسدية في الإنسان، وتداخل المؤثِّرات في كلّ منهما لحساب الآخر، إذا أخذنا الضرب العنيف قلنا، إنه يؤدّي إلى كدماتٍ وجروح، يحملها الجسد بآثارها وآلامها لتتغلغل عميقاً في الوجدان، وتضغط بشكلٍ مباشر على الجملة العصبيّة، وتطرح تساؤلاتٍ عن مدى جدوى التعذيب، فهل هذه الجروح تكسرُ الموقف الإنساني أو أنها تضعف وتقلّل قدرة الاحتمال، إلى أقل من القدرة الكامنة؟..
هذا يولّد معادلة، طرفها الأول القيم، والطرف الآخر مقدار الاستعدادِ لصيانة هذه القيم على حساب الوحدة العضويّة الإنسانيّة، يترافق ذلك مع معالجة نفسيّةٍ تتمحور حول حماية الذات وإخراجها من المجموع الكليّ، وإضعاف القناعة بالمعادلة المذكورة، وفق مقولاتٍ يحملها المثل الشعبي، أو وفق ما يمكن أن يسمّى “حكمة العقلاء”، وتقول: “لماذا لا تبوس اليدُ وتدعي عليها بالكسر؟”.
إن ابتعدنا عن مجموعة الإجراءات البشعة، التي تُحيط بالأسير سعياً لاستجوابه بالتعذيب والإرهاق وخلخلة الاستقرار النفسيّ، والتوازن العصبي، وغير ذلك مما يجعله معلّقاً بين اختيارين كلاهما يقود إلى الجحيم.. إن ابتعدنا عن كلِّ ذلك، نسأل: “وماذا بالنسبة للعزل.. كيف يكون، وإلى ماذا يؤدي لدى الأسير”؟..
العزلُ في أمكنةٍ خاصة لفتراتٍ طويلة، أسلوبٌ يلجأ إليه العدو لتحقيقِ هدفٍ يسمّيه، تنقيهِ السّجن من “التفاح التالف”، وفي الوقتِ ذاته، هو عقاب لمناضلين، تميّزوا في مواجهة الإدارة، وقيادة المعتقلات.
والعزلُ الانفرادي أدّى وفي كثيرٍ من الحالات، وفق شروط العزل، إلى أمراضٍ مزمنة، مثل الروماتيزم، ضعف البصر، التشنّجات الهضمية، والنوبات القلبيّة، وفي حالاتٍ قليلة، أدّى إلى اضطراباتٍ نفسيّة وعصبيّة.
نسألُ أيضاً، وهو سؤال الهاربِ من التوتّر والجنون والفزع: “ألا يشعرُ الأسير أبداً، بلحظاتِ الهدوء والسكينة؟”.
في دولِ العالم، ينتهي التحقيق مع المعتقلين والتحقيق والتعذيب، بعد المحاكمة وإطلاق الحكم، إلا في إسرائيل.. فالوضعُ مفتوحٌ باستمرار، ومحاولة قتل الأسير نفسيّاً وروحيّاً، تبدأ من لحظة اعتقاله، ولا تنتهي إلا بخروجه من المعتقل، أي إنه يدخل في مواجهةٍ مستمرّة.
هنا يختلف وضع المواجهة، ويبدأُ من لحظةِ الاعتقال، شعورُ الأسير بالتحدّي القائم على نفي إمكانيّة تحقيق هدف العدو، وهذا يُدخل المناضل في سكينةٍ صوفيّة بشكلٍ ما، أو هي هدوءُ نفسِ وروح الناسك والمتعبّد والمُعتقد، أن ثواباً دنيويّاً، وأجراً أخرويّاً ينتظرانه، والميل إلى ذكر الله يصبح عقيدة، تدرأ الفعل، وتقلّل من الآثار العصبيّة والنفسيّة، يُضاف إلى ذلك، قدرة المناضل على الهروب من أسئلة، والتوقف لدى أسئلة أخرى.. ومحاولة إخراج المحقّق عن طوره، فيفقده القدرة على التركيز، ما يُكسبه شعوراً بالتفوّق الذي يقوده إلى السكينة والهدوء.. كلّ ذلك، في إطار النسبيّة، وليس الإطلاق.
السكينة والهدوء، يجعلان الأسير ينفصلُ عن كلّ هذا التحدّي المؤلم، ويتّحد مع ذاكرته وإنسانيّته.. يعيشُ طقساً خاصاً في علاقته بأهله الذين لا يراهم في فترة التوقيف، وينسجُ أحلاماً طافحة بأفراحها.
يزوّج أخته، وتلدُ شقيقة أخيه، وأبناء عمومته يقاتلون، وكذلك أبناء الحيّ والقرية.. يستحضرُ كلّ ذلك بفرحٍ، ويزيح كآبة ووحشة وحزن عزلته وانفراده.. تتغيّر أحلامه، وتتبدّل تخيّلاته، ويُلغي الكثير منها في أوّل زيارةٍ يرى فيها فرداً من أهله، فيتشبّث بصورٍ رسمها، مؤكّداً أن أهله يخفون الأخبار السيّئة حتى لا يزعجوه، ويعتقد بصحّةِ تخيّله، ويقاطع المعلومات مع رفاقٍ له من القرية نفسها أو الحيّ نفسه، وإذا ما فقدَ أحداً، تحوّل الفقد والحسرة والألم، إلى مقوّمٍ من مقوّمات صموده، ويزداد حقداً وكرهاً للعدو، الذي يمنعه من تشييع الأم أو الأب، ويعطيه عاملاً إضافيّاً للصّمود.
يعودُ إلى عزلته، ممتلئاً بالنقمة على العدو، مثلما بالمزيدِ من الأحلام، لكنها تأخذه هذه المرّة إلى أناشيدِ وقصائدِ شعراءٍ مناضلين.. يستدعي أقربهم إلى وعيه أو تذكّره، ينتفض ممتشقاً مقاومته، ومتخيّلاً أنه بلا قيدٍ وقد انتصرَ على مغتصب أرضه وحقّه وحقيقته، وربّما شهيد ويسمع زغاريد تشييعه، أو حتى قصائد الشّاعر “عبد الكريم عبد الرحيم” وكلماتٍ خبّأها في ذاكرته:
“يتخيّرنا تحت المقصلة، ونتخيّره للحبّ.. نكتبهُ في دفاترِ صبيّةٍ، تنهضُ إلى تنورِ صباحها، تُطعم عشقها للنّار.. تحملُ خبزَ أيامنا إلينا، توسوسُ بالنّار فتهبنا أسماءنا..
تراكيبُ الجملةِ الهدى..
الأسرى.. مفاتيحُ صبري.. الأسرى.. وراءَ قضبانِ الصّبر والمقاومة، يعلّقون مفاتيح الدار في محفظةِ الذاكرة والجحيم.. ألوّن نفسي بهم، وأحتمي بصهيلِ دمهم..
من أنا؟.. تستلفُ الكلمات قامة التين والزيتون، رحلة التعرّف على جسدي، أزهار الموتِ الحالبة موسيقاها البيضاء، تستدرجُ روحي إلى مقصلةِ الغناء.. في شارعٍ ترمِّم مقبرته أحداقَ جنين، وحكايات الصبيّ الذي اشتقّ غرّته من لازوردِ الشّعر الأبدي.. من فحمةِ عينيهِ أكليل الميلاد، ومريميّة الندى، وفي سنونو أحلامهِ يزرع غربة الدار، ويستسقي مزاميرَ الرماد الهادئة..
أستسلم أنا وهو لآخرِ الوهن الآدميّ في غبارِ المراثي، ونشيّع بلوانا مع تغريد جسدينا، القابعين في خندقِ الصلوات المبتلّة بالرياحين..
خيولُ المكان الزارعة صهيلها في رعدِ القصف، نحلُ ذاكرتي، وآخر أيقونات البحور، إسوارة البديع، رمانة البيان..
يلزمني مقهى أزيّنه بقبّرات التفعيلة المستعصية على روّاد النشيد، حتى لا أشرب قهوة الأعداء، ولا يقاسمني الجوع المُحتمل دمعي، مع حبّات القمح.. يلزمني الصمت كي لا تُقهر حنجرتي، الكلمات الغريبة، واشتقاقات المفردات الضارة، فلا أتنفّس في قاماتِ الآخرين..”.
التاريخ: الثلاثاء29-6-2021
رقم العدد :1052