المشهد الأفغاني، عقب الفرار الأميركي، يطرح الكثير من الأسئلة المريبة عن تمكن مسلحي “طالبان” من السيطرة الكاملة على هذا البلد بسرعة قياسية فاقت كل التوقعات، واللافت أن معظم الولايات الأفغانية استولت عليها الحركة من دون قتال أو مقاومة، ما يرجح وجود اتفاق مع واشنطن على عودة “طالبان” المتطرفة إلى الحكم مجدداً، وهذا يشير بدوره إلى أن الحكومة العميقة في أميركا قررت تغيير استراتيجيتها بعدما فشلت على مدار عشرين عاماً من الاحتلال في تحقيق أهدافها المزعومة لجهة محاربة الإرهاب، وترسيخ الأمن والاستقرار، ونشر الحرية والديمقراطية في هذا البلد.
المفاوضات الأميركية مع الحركة، بدأت منذ عهد ترامب، واستكملها بايدن بالإعلان عن انسحاب سريع تم من دون التنسيق مع الحكومة الأفغانية، والملاحظ أن فترة هذه المفاوضات ترافقت مع نقل أميركا لأعداد كبيرة من إرهابيي “داعش” في العراق وسورية وليبيا ودول أخرى إلى أفغانستان- وهذه المعلومات سبق أن أكدتها وزارة الدفاع الروسية- وهذا يقدم صورة واضحة لماهية الاستراتيجية الأميركية الجديدة، هي لن تتخلى عن أهدافها ومصالحها في أفغانستان، وإنما تريد استبدال وجودها العسكري، بتنظيمات إرهابية ترعاها وتحتضنها، و” طالبان” بنهجها المتطرف باستطاعتها تأمين البيئة الحاضنة لتلك التنظيمات، لاسيما أنها متحالفة مع تنظيم القاعدة وتفرعاته، ويمكنها تقديم خدمات كبيرة للولايات المتحدة على هذا الصعيد.
أميركا تكبدت خسائر كبيرة خلال احتلالها لأفغانستان، وهي تريد تجنب المزيد من تلك الخسائر بالاعتماد على ورقة “طالبان”، وهي لا شك ستكون من أول الدول التي ستعترف بحكمها في المستقبل القريب، ريثما ترتب الحركة أمور الحكم، فلا شك سيكون للمجتمع الدولي عند ذلك موقف واضح إزاء الاعتراف بالحكم الجديد من عدمه، ويكفي لواشنطن أن تجعل من أفغانستان بؤرة جامعة لكل تنظيماتها الإرهابية، حتى تستمر في سياسة الفوضى الهدامة التي تنتهجها لزعزعة السلم والأمن الدوليين، لاسيما أن دولاً كبرى على قائمة الاستهداف الأميركي من وراء جعل أفغانستان مسرحاً دائماً للإرهاب الدولي العابر للقارات، تحركه واشنطن كيفما تريد، روسيا والصين وإيران على رأس تلك الدول المستهدفة بالإرهاب الأميركي.
استيلاء ” طالبان” على الحكم مجدداً، وعدم قدرة الجيش الأفغاني الوطني على مواجهتها رغم المزاعم الأميركية بتدريبه جيداً، يشير إلى أن ما يحدث الآن هو تنفيذ واضح لاتفاق مبرم بين واشنطن والحركة، ما يعني أن أميركا هزمت مجدداً، عسكرياً وسياسياً وأخلاقياً، ولكن ماذا عن مستقبل الشعب الأفغاني؟، وما المصير الذي ينتظره في ظل مآسيه المستمرة بفعل الحروب الأهلية والخارجية التي تفرضها الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون على هذا البلد؟.
لا شك في أن مشاهد الهزيمة الأميركية، وتخلي واشنطن عن حلفائها في أفغانستان، وترك الشعب الأفغاني يواجه مصيراً مجهولاً، ستبقى عبرة لكل الحكومات والأنظمة الأخرى التابعة للولايات المتحدة، فهي سرعان ما تتخلى عن أدواتها عندما تنتفي حاجتها لهم، فهل تعيد تلك الحكومات حساباتها، حفاظاً على مصالح شعوبها؟.
نبض الحدث- بقلم أمين التحرير ناصر منذر