الملحق الثقافي – عباس حيروقة:
لن أدخل هنا في تعريفِ الشِّعر لغةً واصطلاحاً، ولن أبحث في تجاربِ أساطينه وسدنته، أو في أنواعه، ولن أتطرّق إلى عناصرهِ الفنيّة، وخصائصه وأقسامه ومدارسه، ولن .. ولن ..الخ، لأنني أخالُ أنني لن آتي بجديد، ولا سيما أن العديد من الفلاسفة والشّعراء والنقّاد، حاولوا الاجتهاد في تعريف الشّعر، فعرّفه كلّ منهم وفق المعطى الزمكاني له، وأيّ تعريفٍ للشّعر، هو تحجيمٌ وتقزيمٌ له، ومحاولة لليّ عنقه وإدخاله في حالاتِ ثباتٍ ما.. فالشِّعر أكبر من كلِّ التعريفات والمصطلحات..
سأورد قولاً أعتبره من أجمل ما قيل في الشّعر، لأجعله مدخلاً للحديثِ عن جزءٍ مهمٍ، ومكوّن أساسيّ للشعريّة، ألا وهو الصورة، فـ «ابن سينا» في كتابه «الشفاء» قال: «الشّعر هو كلامٌ متخيّل، مؤّلفٌ من أقوالٍ موزونة متساوية، وعند العرب مقفّاة، ومعنى كونها موزونة، أن يكون لها عدد إيقاعيّ ..»
يضيف «ابن سينا: «والمتخيّل هو الكلام الذي تذعن له النفس، فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمورٍ، من غير رؤيةٍ وفكرٍ واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانيّاً غير فكريّ، سواء أكان القول مصدٍّقاً به أم غير مصدق.
ويرى في موضع آخر، أن التخيّل إذعانٌ والتصديق إذعان، لكن التخيّل إذعانٌ للتعجب والالتذاذ بنفسِ القول، والتصديق إذعانٌ لقبولِ أن الشيء على ما قيل فيه.
إذاً، أدرك «ابن سينا» تلك الأهمية للخيال في خلق الصورة، كما أدركها فيما بعد «كانط» عندما اعتبر أن الخيال «أجمل قوى الإنسان.»
ولِما للصورة الشعريّة، من مكانةٍ ودورٍ في تميّز وتمايز النصّ، وكونها وسيلة نقل الفكرة والعاطفة معاً إلى القارئ، عن طريق الخيال، وباعتبارها أكبر عونٍ على تقدير الوحدة الشعريّة، أو على كشف المعاني العميقة التي ترمز إليها القصيدة، وليست الصورة شيئاً جديداً، فإن الشّعر قائم على الصورة منذ أن وجد حتى اليوم، فهي عنصر جداً حيويّ، قائمٌ على قدرة التخييل عند الشاعر، فالتخييل ملكة وكما قلنا، هو عند «ابن سينا» الكلام الذي تذعن له النفس.
والشاعر دائماً يعبّر عن أجملّ قواه، فينشط الخيال، ويمتدُّ أنى قادته القصيدة، وقراءة الصورة الشعرية ودورها، ليس بالأمر البسيط، فمهما حاولنا التوضيح يبقى ثمة غموضٍ ما، وتعقيد في معناها ومحتواها، وخاصة في تحديد ماهيّة الخيال، فالخيال عضويّ، وعضويته تلعب دوراً في تمكين الصورة في النصّ، وهو الدور ذاته الذي تلعبه الصورة في تمكين النصّ شعرياً وتمايزه، فالصورة مرآة تعكس البنية النفسيّة والاجتماعيّة والفكريّة وو.. للشاعر، وهي تعبّر عنه وتمثّله، كما عبّر هو عنها ومثّلها بحيويّته التخيليّة، ويمكن تشبيه علاقة الصورة بالقصيدة كعلاقة الروح بالبدن، إذ تعتبر الصورة هي المادة التي تحتويها القصيدة، وتمضي بها حيث تشاء، تجاه عوالم وفضاءاتٍ كالروح، فهي النقيض في البدن وتأخذه وفق رؤاها، أما الخيال بالنسبة للصورة الشعريّة، فهو الجوهر إذا اعتبرنا الصورة مادة. إذاً، هو جوهرها وهو شعريتها.. فالصورة هي المادة في القصيدة الشكل، والخيال كما قلنا، هو جوهرها.
ما يمكن الحديث عنه أيضاً هنا، هو مهام الشعر وتبدّل دوره التاريخيّ، من حيث كونه يمثّل قيمة جماليّة روحيّة أخلاقيّة، منتصرة للحقّ وللخير وللأصالة، ومن حيث هو أيضاً حالة معرفيّة للمجتمع، لا بل هو المصدر المعرفيّ الثقافيّ، وهو السجل الأهم الذي يدون فيه تراثه الأصيل، ويوثّق الأحداث الجسام، والأنساب والوقائع، ويحفظ القيم ويعمل على تعزيزها، ونقلها من جيل لآخر..
كان الشّعر وما زال وسيبقى، الأكثر قدرةً على تقديم تصورات رؤيوية لمستقبلٍ ما، وتتأتّى له هذه الميزة من بين جميع مفردات المنظومة المعرفيّة، وخاصة الأدبيّة منها، من خلال تملّكه أدوات التعامل مع الزمن، فهو القادر على تفكيك الزمن الميقاتي الفيزيائي والاجتماعيّ، وإعادة تشكيل وعيه وفق ثقافةٍ مغايرة، تأصيليّة تأسيسية معرفيّة، بعد الإمعان مطوّلاً في الحراك السياسيّ والاقتصاديّ والفكريّ، فهو يُنتج رؤى ونبوءات وتجلّياتٍ مستقبلية، وغالباً لا يتم التعاطي المرحلي الآنيّ مع تلك النبوءات، إلا بعد فوات الأوان.
من بديهيات أيّ منظومةٍ معرفية وأولى، مفرداتها (التنوير) ومن ألف باء التنوير، تشكيل جبهةٍ وطنيّةٍ إنسانيّة، في وجهِ الظلاميين من أبناء الكهوف والأقبية الرطبة، في وجهِ ثقافةِ الفساد والإفساد، التي مورس لعقود إن لم نقل لقرونٍ، لإيصالِ الإنسان إلى ما وصل إليه، في وجه ثقافة التكفير والقتل والاصطفافات الطائفية والمذهبية.
من هنا نقول، إنّ من أهم واجباتنا كمثقفين – شعراء، الانتصارٍ للخير، للحبّ للسلام، للانتماء للحرية بكلِّ تجلياتها، وهذا ما يمكن اختزاله بالانتصار للوطن والعمل على تعزيز ثقافة القانون والمواطنة والكرامة والعدالة والمؤسسات و.. الخ.. ولا يتم هذا كله، إلا من خلال نبذِ ثقافة القبح والفساد والكراهية والعبودية والقمع والقتل، والاتجاه بشكلٍ جماعيّ، للعمل على الارتقاء بالإنسان نحو الأفضل.
هم حاولوا أن ينأوا بالثقافة وبالشعر، بالفكر، بالفلسفة، عن تلك المفردات الحضارية التي كما أسلفنا، تعمل على النهوض بالإنسان تجاه وطنٍ يرفل بالسلام وبالخير.. فعملوا على كلّ ما يجعل المثقف مهمّشاً بلا أحلام، بلا رؤيةٍ، فأصبح جلّ همه رغيف خبزه وزجاجة دواء لطفله المحموم، حدّوا وجمّدوا أحاسيسه تجاه القضايا الكبرى.. أفرغوه حتى من محتواه النفسيّ والاجتماعيّ، من انتمائه إلى مكوناتٍ حضاريّة، ثقافيّة، تاريخيّة باذخة.
جلّ الشعراءِ، من عربٍ ومن عجم، دعوا من خلال قصائدهم إلى إحلال السلام ونبذ ثقافة العنصرية، وكلّ أشكال العبودية، ونادوا بالمحبة: زهير بن أبي سلمى، المتنبي، أبو النواس، رسول حمزاتوف، لوركا، طاغور ..الخ ..
العدالة والحرية والانتماء، من أبجديات الشّعر والفكر والثقافة والانتصار، للخير، للسلام، للضوءِ.. الشعر تلك الكروم المعلقة بأعيننا وقلوبنا، تنتظرنا وتحنُّ إلينا وعلينا ككرَّمها.. كروم الدروب الطويلة والعمر المديد..
الشعر تلك الينابيع التي جمعتنا حولها حفاة، وركضنا على حوافها نشدُّ السماء إلينا بأناشيد وأهازيج كلّ الأمهات والجدّات.. نرسم ما زنرنا الله به من براءةٍ، وعشق على وجه ماء.
الشعر أسئلةٌ راكمتها حالات الخوف، القلق، التأمل، البكاء.. بكاء النساء بسببِ فقدانهنّ أزواجهن، أشقائهنَّ، أبنائهنّ، وبكاء الرجال على مرأى من أولادهم، الضالعين في النحولة والانحناء والجوع.
الشعر تلك العيون التي تنتقل بين خرابات الحروب وازدحام السماء، بكتلٍ الحديد وهدير المجنزرات، على ضفافِ نهرٍ ودروب القرى، وبين الله الذي في الأعالي..
الشعر حنين وطن، حنين أمٍّ على وحيدها المتأخر في مساءات الحروب.. الشعر نورٌ وضوءٌ وأسرابُ عصافير .. الشّعر تهاليلٌ وأهازيجٌ وزغاريد أمٍّ، تستقبل جثمان ابنها الملفّع بالوطن..
التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020
رقم العدد: 1060