الملحق الثقافي – هفاف ميهوب:
للهيمنة أشكالٌ متنوعة، تطالُ كلّ مجالات الحياة، وأخطرها الإعلامية والثقافيّة.. هيمنة من أسماهم العالم الأميركي «هربرت شيلر» في إحدى مؤلّفاته «المتلاعبون بالعقول»، وهم ذاتهم من كشف في مؤلفاتٍ أخرى له، عن مخططاتهم الكبرى التي يهدفون من خلالها، للسيطرة على الدول النامية خاصة، وعبر وكالات الأنباء العالميّة، وأجهزة التكنولوجيا والإعلان، والشركات متعدّدة الجنسيّات، وغير ذلك من الحملات الإعلاميّة التي يشنّونها على تلك الدول، بدعوى محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطيّة…
كشف هذا أيضاً، في كتابه «الاتصال والهيمنة الثقافية» الذي أوّل ما فضح فيه، المخطط الأميركيّ للهيمنة على العالم الثالث، مركّزاً على البعد الثقافيّ الذي سعت أميركا، وبكلِّ ما تملكه من نفوذٍ للسيطرة عليه، وبهدفِ إحداث نوع من التبعيّة الثقافيّة لها. أي جعل نموذجها مصدر كلّ معلومة ثقافيّة أو فكريّة، يسعى المثقفون من أبناء الدول النامية إلى تبنّيها وتقليدها، دون وعيٍ منهم، بالخطر الذي تحمله لهم ولبلادهم..
نعم.. لقد سعت أميركا، وعبر إمكانياتها التكنولوجيّة والإعلاميّة، للهيمنة الثقافيّة، مدعّمة سعيها هذا، بما تقدمه من الأموال اللازمة لدعم البحوث والمراكز العلميّة والتربويّة في الدول التي تهيمن عليها، هادفةً من ذلك، إلى خلق كوادرٍ علميّة، يكون ولاؤها لها، أكبر من ولائها لبلدانها…
سعت أيضاً، لربط النظام التعليميّ في هذه الدول، بالنظام المُتّبع فيها، بحيث تضع المناهج ونُظم التدريس، التي تكفل ضياع الهويّة القوميّة، وتحقيق الغربة الثقافيّة والحضاريّة، والتبعيّة الفكريّة التامة، للنموذج الأميركي-الغربي..
أما الهيمنة الأكبر، قيامها بسحق أو تصفيةِ المفكّرين القياديّين والوطنيّين، ممن تسارع منهم وعندما يرفضون الخضوع لنموذجها ونُظمها، لاتّهامهم بالإثارة والتعصّب تارة، وبالخروج عن قيمِ النظام العالميّ، وشرعيّته الدوليّة، تارة أخرى.
تفعل كلّ ذلك، اعتماداً على شنّ حملاتٍ ضد أنظمة تلك الدول، وخاصة التي لا تخضع أو تقدّم الولاء لها، أو حتى تلك التي تواجهها رافضة هيمنتها التي لا يكون منها، إلا أن تسارع لاتّهامها بأنها غير ديمقراطيّة، تنتهك حقوق الإنسان، وتحارب الأقلّيات، وتشجّع الأعمال الإرهابية، وتصدّرها إلى الدول المتقدّمة.. تتّهمها أيضاً، بأنها تخالف قرارات المجتمع الدولي، وتمتلك ترسانة من الأسلحة النوويّة…
حتماً شهدنا هذا بوجعِ أعيننا، وعلى مدى الحرب التي عانينا منها، مثلما كلّ من استهدفته اعتداءاتُ النظام الأميركي الإرهابي.. أفعانستان، العراق، لبنان، اليمن…الخ..
مع ذلك، تذرف أميركا الدموع، مدّعيّة حرصها على سلامة وديمقراطيّة شعوب هذه الدول، دون أن تتوقف عن توسيع مجالات وأهداف هيمنتها، وعن تصنّيع الشائعات عبر إعلامها الذي يروّج لها ويلصقها بمعارضيها، ساعياً وبكلّ ما يملكه من قوة تكنولوجيّة، للعمل على ترسيخِ كلّ ادّعاءاته ومقولاته، لدى غالبية حكومات وشعوب العالم.
هكذا تدور الحروب الثقافيّة والإعلاميّة الأميركية ـ الغربيّة، مدعومة بوكالات اتصالات تكنولوجيّة، تسعى لتحقيق الغزو الثقافي الكامل، الذي يضمن استمراريّة هيمنتها الكاملة، على العالم الثالث.
تستمر في هيمنتها، وتتفاقم الصراعات ما بين أولئك الذين يسعون لوضعِ حدٍّ لهذه الهيمنة، وأولئك الذين يسعون للإبقاء عليها، ليكون ما ينتهي إليه هذا الصراع، اتّساع رقعته، وتفاقم خطورته..
يستعرض «شيلر» كلّ هذا، ليعود إلى أصول ومنابع هذه الهيمنة، وإلى سياقها وأساليبها المستمرة التي تتخفّى أحياناً، برداء «الدبلوماسيّة الثقافيّة»..
لكن، ولطالما كان المشروع التجاري الأميركيّ، هو من يشجع هذا التخفّي، ويعزّز الدراسات والمنهجيّات والبحوث، للحفاظ على مشروعه وتوسّعه، فحتماً سيكون الاستحواذ على العقول المُستهدفة، أكثر جدوى وبالتالي خطورة، ذلك أن الإخضاع الثقافيّ والإعلاميّ، يتمّ عبر برمجة تجاريّة، تُشرعنها سوق السياسة الدوليّة ـ الأميركية..
يستعرض «شيلر» هذا، ليعود إلى السياق الزمني الذي بدأ فيه مبدأ التداول الحرّ للمعلومات، منوّهاً بأنها قضية أعدّت باهتمام بالغ، وعُزِّزت بعناية في الفترة التي سبقت نهاية الحرب العالمية الثانية، والسنوات القليلة التي تلتها، وأن أولئك الذين اختاروا الفترة بوصفها فترة الحرب الباردة، تغاضوا عمّا سبقها.. أي عندما كانت أميركا تمهّد السبيل لقيام الرأسمالية الأميركية، بهجوم يكتسح العالم كلّه، ويمهّد لجعل مسألة التداول التي بدأت لأول مرة في ذلك الوقت، تحتل فعلاً مكان الصدارة..
هكذا احتلت مسألة التداول الحرّ الصدارة، وبتمكّن التجارة الأميركية، وقبل انتهاء الحرب بفترة، من دمج قضية التدفق الحر للمعلومات، في ايديولوجيات سياسية رسمية، وقد اتّخذت قرارات تحثّ الأحزاب السياسية الكبيرة، على مساندة حرية المعلومات، ونقلها عبر العالم كلّه، بلا قيود، وهنا تكون أميركا:
«أميركا التي أقنعت نصف الكرة الغربي من العالم، بالمزايا التي ينطوي عليها هذا التداول، حوّلت اهتمامها إلى جميع بقاع العالم، وهنا لا يمكن أن أفهم استخدامها للأمم المتحدة، والمنظمات المنتسبة إليها، كأدوات للسياسة الأميركية، فضلاً عن استخدامها كمحافلٍ فعّالة لنشر مبدأ التداول الحُرّ…».
من هنا، ومع الجهود التي بذلتها أميركا لكسب تأييد دولي واسع النطاق لمفهوم التداول الحرّ هذا، تمكّنت وبعد محاولات ومؤتمرات عديدة، وبدعم وسائل الاتصال الحديثة، الحاسبات الالكترونية، توابع الفضاء الصناعية، شبكات المعلومات، من امتلاك نظام تجاري يتّسم بالقوة، وبالتالي تمكنت من احتلال مركز الاقتصاد الدولي.. أي الهيمنة الثقافيّة، السيادة الثقافيّة، الاستقلال الثقافي، بل والامبريالية الثقافية..
رويداً رويداً، بدأت هذه الهيمنة تتضخم، وتحوّل تدفق معلوماتها من موقف القبول، إلى موقف الهجوم، حيث أغدقت أميركا منتجاتها على العالم، بطريقةٍ باتت تحتاج إلى تدابيرٍ تكنولوجيّة وقائيّة.
إنه ما طالب به «شيلر»، ومن أجلِ الوقاية من أضرار هذا التدفق، وتأثيره على المجتمعات، ولاسيما تلك التي تحتاج وبالدرجة الملحّة، إلى تحسين أوضاعها الماديّة..
كلّ ما ذكرناه، حقائق جعلت أنشطة الامبريالية العالميّة، تشمل حتى المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة، وتفرض هيمنتها الإيديولوجيّة على شعوب العالم النامي، ما جعل رؤساء دول البلدان غير المنحازة، والتي ترفض هذه الهيمنة، يشدّدون على أهمية إعادة تأكيد الذاتيّة الثقافيّة الوطنيّة، تلك الذاتيّة التي باتت ولدى الدول التي تقع في القبضة الاستعماريّة، تعاني من زيادة الهيمنة الثقافيّة.
ببساطة: تدفّق المعلومات الذي بات واقعاً مفروضاً لا يمكن إيقافه، يعزّز ويدعّم النمط السائد لتبادل المعلومات على الصعيد الدولي، ويضمن المشروعيّة على مقدرة عدة دول مهيمنة، ويدعمها كي تفرض مفاهيمها ومنظوراتها الثقافيّة على سائر العالم، وكلّ ذلك تحت مسمّى: تقدّم، حضارة، تكنولوجيا، ديمقراطيّة، حريّة..»..
التاريخ: الثلاثاء 24- 8- 2020
رقم العدد: 1060