أثار خبر إغلاق مكتبة (نوبل) في دمشق ردود فعلٍ كثيرة، قد تكون أكثر من عدد زبائن المكتبة، على الأقل في السنوات العشر الأخيرة، مع أن هذا الإغلاق كان النتيجة الحتمية لتدني الاهتمام بالكتاب (المتدني أصلاً). لا شك أن للأسى الذي طبع خواطر من كَتَبَ عن نهاية التجربة أسبابه العميقة، فعلاقة أصحاب المكتبة مع زبائنهم، وخاصة الدائمين منهم، لم تكن علاقة بائع وشار، وإنما كانت محكومة بطبيعة (السلعة) التي أشاعت جواً من الود الثقافي يبدأ من طلب النصح عن الكتاب الأفضل في موضوع محدد، أو في مبادرة أصحاب المكتبة (الفائقين الود والتهذيب) بالتعريف بالكتب الجديدة. ولا تنتهي عند طلب كتابٍ نادر، أو حتى تصويره.
سبق (نوبل) على درب الإغلاق مكتبات تمتلك خصوصية متفردة منها : مكتبة العائلة، التي كانت توفر الكتب الأجنبية المترجمة، ومكتبة أطلس ملاذ الباحث عن الكتب العلمية. ومكتبتا الزهراء وميسلون المتخصصتان في الكتب السوفييتية زمن مجد النشر، حين كانت أسعار الكتب الأدبية القّيمة شبه رمزية، وكذلك الألبومات الفنية الفخمة التي تطبع في أفضل مطابع أوروبا وتباع للقارئ بأدنى بكثير من كلفتها. و كانت مكتبة الزهراء تبيع بسعر زهيد للغاية أسطوانات الموسيقا الكلاسيكية العالمية. إضافة إلى ما سبق: مكتبات غيرها ذات قيمة ثقافية وتاريخية عاليتين. وبعضها دور نشر كادت تضيف اسم سورية إلى المثلث الشهير (القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ). تلك المقولة الشائعة التي كانت تجعل سورية بلد مرور، لا بلد إنتاج، ولا بلد استهلاك (في مجال الكتاب).
حتى لا يعتبر ما سبق تحاملاً أو تجنياً، يمكن سؤال أصحاب الكتب وناشريها، ومن تبقى من أصحاب المكتبات، حيث لا يزيد عدد نسخ الطبعة الأولى من مُؤلفٍ جديد عن الألف نسخة، وغالباً لا تكون هناك طبعة ثانية، باستثناء حالات تكاد لا تذكر لندرتها. وإذا أردنا أن ننأى عن الادِّعاء علينا الاعتراف بأن تقاليد القراءة ليست من ثقافتنا الاجتماعية، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، فقليلة للغاية العائلات التي تشجع أبناءها على القراءة خارج الكتب الدراسية التي عليه أن يبذل كل وقته لبصمها. وإذا كانت الغاية في جوهرها الحصول على مقعد جامعي في اختصاص محترم! فإنها بسبب المبالغة الاجتماعية أصبحت وسيلة لتباهي الآباء والأمهات بعلامات أبنائهم، على حساب التنشئة الصحيحة لهؤلاء الأبناء. والحال في المدارس ليس أفضل فليس في مناهجنا الدراسية، أو خططنا التعليمية ما يشجع الطالب على القراءة.
ومع ما سبق فإن لدينا معرضاً سنوياً للكتاب يتضمن عشرات الأجنحة وآلاف العناوين الحديثة، أو المعادة، التي تستجيب لمتطلبات النماذج المتباينة من القراء، بين باحث عن المعرفة، أو متمسك بنوع واحد من الكتب لا يحيد عنه، أو معني بكتب التسلية وحدها، أو منغلق على عناوين بذاتها لا يمل تكرار قراءتها، بقدر ما يخشى كتاباً يدعوه للتفكير، وتحكيم العقل، أياً كان اتجاه هذا التفكير..
يزداد معرض الكتاب رسوخاً عاماً بعد عام، فيما القراءة كتقليد اجتماعي تشهد تباطؤاً في النمو، إذا أحببنا استخدام تعبير الاقتصاديين المخفف بديلاً عن تعبير تراجع القراءة، وهي شكوى تتكرر في كلّ بلد عربي ويرد بعضهم أسبابها إلى انتشار التلفزيون، وشيوع استعمال الانترنت. في حين أنه في الدول التي تتقدم تلفزيوناتها عن تلفزيوناتنا بأشواط بعيدة، ويشهد استخدام الانترنت فيها أرقاماً قياسية، لا تزال دور النشر تصدر آلاف الكتب الجديدة سنوياً، ولا تزال أعداد النسخ المطبوعة تسجل أرقاماً خيالية، بل يمكن وصفها بالأرقام الأسطورية إذا قارنا بينها وبين ما يطبع في بلادنا العربية، وقد ذكرت إحصائية لمنظمة عربية معنية بشؤون الثقافة منذ سنوات طويلة أن ما نشرته اسبانيا وحدها من كتب مترجمة خلال عام واحد يفوق ما ترجمه العرب منذ عصر المأمون وحتى عصرنا الراهن. فيما تقول إحصائية ثانية :إن البشرية قد راكمت من المعارف في العشر سنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين بقدر ما راكمت منذ اكتشاف النار وحتى بنهاية القرن العشرين.
وباستخدام لغة الاقتصاديين مرة أخرى، فإن المشكلة ليست في العرض وإنما في الطلب، ليست في توفر الكتاب، وإنما في نقص القارئ. في كلّ مدرسة توجد مكتبة ويندر أن تجد من يستعير ويقرأ، وفي كلّ مركز ثقافي مكتبة وقد لا تجد فيها سوى الطلاب الذين يقرؤون كتبهم المدرسية، وفي أحسن الحالات يبحثون عن مراجع دراسية. مئات الحافلات تنطلق بين المدن والمحافظات يومياً وفي كلّ منها عشرات الركاب الضجرين يقتلون الوقت بالملل ومشاهدة أفلام سينمائية ربما شاهدوها قبل ذلك مرات عديدة، ويندر أن ترى بينهم من يقرأ كتاباً..
ولو على هاتفه المحمول..
إضاءات- سعد القاسم