الملحق الثقافي:زهرة عبد الجليل الكوسى:
قدّم استقالته لنقابةِ الأطباء، وهو الطبيب الأشهر بالأمراض النفسيّة، وقرّر العودة للتدريسِ في الجامعة، بعد أن استعصى عليه علاج أحد مرضاه …
حاولتُ ثنيه عن قراره، لكنّي لم أفلح، كان يصرُّ عليه بانفعالٍ شديد، متَّهماً قصور الطبّ النفسيّ في بلادنا على النظريات، وتجاهله ضرورة تلازم القانون مع هذا العلم، لفرضِ حلوله إن لزم الأمر، بحجّة سريّة المهنة!
سعيتُ لتهدئته، وطلبتُ منه أن يشرح الحالة التي هزمته، عسى أن نجد لها حلّاً سويّة، ولاسيما نحن زملاء مهنة واختصاصٍ واحد، بسيكولوجية المراهقة.
بعد جدلٍ طويل بيننا، اقتنع بوجهة نظري، بأن الشرح لا يمسّ بشرفِ مهنتنا، طالما الغاية منه إيجاد علاجٍ لحالةٍ مرضية …
وبدأ يتحدّث …
إنها يا صديقي، فتاة في مقتبل العمر، زميلة ابنتي في الجامعة، وصديقتها الصدوقة، ذكيّة وجميلة، وربما هذا سبب شقائها.
توفّي والدها وهي في المرحلة الإعدادية، وبقيت مع زوجته وإخوتها من أبيها، أمها مطلّقة منذ نعومة أظفارها، ومتزوجة من آخر، ولم تتعرّف عليها إلا عندما دخلت الجامعة.
يبدو أنها من بيئةٍ تحكمها العادات والتقاليد الصارمة، ومع وجود الخالة، أصبحت تنتمي لعائلةٍ خاصة بها، مستقلّة عنهم، مع كتبها ودراستها، منطوية على نفسها بالإكراه، فلا أحد يسأل عنها، إلا من خلال زوجة الأب.
حاولت الانتحار مرّتين، وفشل الموت بتلقّفها، كما قالت.
تأتيني شبه منهارة، تحدثّني وتمضي ..جاءتني بالأمس باكية، تريد أن تعمل سكرتيرة في عيادتي، بعد دوامها بالجامعة، بنصفِ راتبٍ مقابل أن أسمح لها بالنوم في العيادة، صدمني عرضها، قلت لها مهدئاً من توترها وغضبها:
-سأجد لك عملاً محترماً في الجامعة، براتبٍ كاملٍ، مع طلبة بعمرك، ستجدين معهم الحياة جميلة، وبعد أن تنتهي من دراستك الجامعية، أعدك بوظيفةٍ أفضل، تناسب اختصاصك باللغة الإنكليزية، بشرط أن تعودي إلى البيت، ولا تفكّري بالنوم خارجه، أبداً!.
وافقتْ على مضض، بعد حوارٍ مرير، ووعدتني بذلك، وهي لا تكذب!
ثم سألتها عن السبب الذي جعلها تفكّر بهذه الحدّة، ويدفعها لأن تفكّر بتركِ بيت والدها؟.
بدأت تتحدث، قائلة:
لا أعرف يا دكتور، لماذا ضربتني زوجة أبي، وأنا مريضة، وشبه غافية خلف المدفأة، التي أشعلتها بانتظار عودة أولادها من المدرسة، خوفاً عليهم من بردِ كانون القارس، قبل زواجي بحوالي أسبوعين ..!
إذ إن للبرد حكاياه الظالمة في دمي وذاكرتي، يعيدني إلى طفولةٍ بائسة، عشتها رغماً عن الحياة التي ترفضني كلّ يوم، وإلى حفنةِ دفء كنت أسرقها وأخّفيها بين كفيّ الصغيرتين، رغم إصرار أصابعي الزرقاء على التهامها بشراهةٍ، دفعة واحدة، في محاولةِ استجداءٍ يائسة، للإبقاء على قليلٍ منها في كفّي، وذلك في الحصّة الأخيرة من دوامي في المدرسة، عسى أن تحميني من صقيع غرفتي، وتكفيني حتى تأذن خالتي، بإشعال المدفأة!
تلك المعارك بيني وبين أصابعي الزرقاء الشرهة، تدور طاحنة، بشكلٍ يومي، طيلة فصل الشتاء، أثناء العام الدراسي.. وأبوء بالفشل الذريع، لأن مسافة الطريق من المدرسة إلى البيت بانتظاري، لتهبني حالة الطقس، بكلّ ما أوتيت من جلافةٍ وصقيع، إلى أن انتشر البردُ في كلّ أنحاء جسدي، وانتهى إلى روحي في كل الفصول، مع عجزِ الأطباء عن علاجي وشفائي!
كففتُ دمعي، ارتديت ثيابي على عجلٍ، وخرجت من البيت مسرعة، أصارع الرياح القطبية وحيرتي الهوجاء، بلا هوادة، كخيمةٍ تترنّح في مهبِّ الريح، وهي تتشبّث بأوتادها الضاربة في الأرض، مثل خيام اللجوء الأول، وأنا أتساء: إلى أين؟!!.
الصقيع لم يرحمني كما الدنيا، ناشدتُ الله رحمة تنقذني من زواجي وخالتي.. لا أعرف كيف خطرت في البال، مَن يُقال لها أمي!.. ربّما إن ذهبت إليها أجد ضالتي، بهذا حدّثتُ نفسي!
عزمتُ على الأمرِ بلا تردّد، رغم جفائها الطويل معي، وانقطاع أواصر القربى بيننا بفعلِ قدرٍ أسود خيّم علينا، وقذفني إلى الجحيم، مع كمٍّ هائل من النسيان!
ارتحت وأنا أتخيّل المدفأة، وأسمع زغاريدها تسابق دقات قلبي..
طرقتُ بابها، ففتحت هي الباب، وما إن رأتني حتى ارتبكت، واحمرَّ وجهها، كأننا التقينا منذ ساعات، وليس من سنوات بعيدة.. لم أعير صدمتي أيّ اهتمامٍ، المهم أن أدخل وأجلس بجانب المدفأة، وإذ بها تفتح باب غرفة الضيوف، المغلقة على درجةِ حرارة إلى ما دون الصفر، تدعوني للانتظار ريثما تُحضر المدفأة الكهربائية.. لم أستطع الجلوس، تجمّدت واقفة من هولِ المفاجأة، إلى أن دخلت وهي تحمل عاصفة ثلجية بين يديها، رمتها في غياهبِ روحي، دون أن تدري …
انتابني الذهول.. أحجمتُ عن التحدّثِ معها بما يؤلمني، علماً أن حكاياتي كانت يانعة في جعبتي، منذ سنواتٍ طويلة ..
عندما دخلتْ ابنتها اليافعة، تسأل وتسلّم على الضيفة، قالت لها أمي:
– أهلاً حبيبتي، ادخلي بسرعة من البرد، تعالي، سلّمي على رفيقة خالتك!
شعرتُ يا دكتور بدوارٍ في رأسي، تقيّأتُ من تخمةِ جرحي وخذلاني.. استأذنتها بالمغادرة، بعد أن حسمتُ أمري بأن أعيش وحدي، تغريبة عبثِ الأقدار، بلا أجنحة مغفرة، ساخرة من وجهه المخيف، بعيداً عن أملي بحفنة دفء!!..
التاريخ: الثلاثاء12-10-2021
رقم العدد :1067