اللعنة

 الملحق الثقافي:أمين الساطي:

منذ أكثر من عشرِ سنوات، وحينها كنتُ طالباً بكليّة الطب في جامعة دمشق. كانت لي عمّة اسمها فوزية، ولها بنتٌ وحيدة أصغر مني، وكانت العمّة دائماً تقول، إن ابنتها لمياء ستكون من نصيبي، وستزوجني إياها بعد أن أنتهي من دراسة الطب. لم أكن أشعر بأيّ مشاعرٍ نحو ابنتها، فهي قصيرة وسمينة ومتوسطة الجمال، لكني كنت أكتفي بمسايرتها، وأهزُّ رأسي بالإيجاب.
أصيبت لمياء بسرطان الرئة، وبدأت حالها تسوءُ من يومٍ إلى آخر. في إحدى الأمسيات، اتّصلت عمتي بي، وطلبت مني الحضور فوراً إلى منزلها، فهي خائفة من أن تدوخ وتسقط على الأرض. عندما وصلت، كانت عمتي جالسةً على الكرسي، إلى جانب ابنتها التي تبكي من شدّة ما تكابدهُ من آلامٍ فظيعة.. تمسكُ بيدها لتُشعرها بأنها معها، مستمرة بأحاديثها، على الرغم من أن لمياء غير قادرة على الكلام، فهي بين الوعي واللاوعي.
تأكدتُ بأنها تحتضر، وعلى وشك الموت، ولن تعيش حتى الصباح. أخذت عمتي تبكي وتنوح مردّدةً، بأنها ستقتل نفسها إذا ماتت ابنتها وتركتها وحدها في هذا العالم، وقد أكّد الطبيب الاختصاصي مراراً لها، أن مرض ابنتها متقدّم كثيراً، ولا يمكن علاجه، لكنها ظلّت ترفض تصديق ذلك.
دون أن أسألها، ذهبت وأحضرت ممرّضاً أعرفه، يمارس التنويم المغناطيسي في مستشفى الجامعة، ليقوم بتنويم لمياء مغناطيسياً، وليخفّف عنها آلام سكرات الموت. أخرج من جيبه ورقة بيضاء، عليها نقطة دائرية سوداء، بدأ طالباً من لمياء الاسترخاء والتركيز على النقطة، وأخذ يحرّك الورقة بشكلٍ دائريّ، موحياً لها بكلماتٍ تشبه الهمسات، بأن عليها أن تعود إلى أيام طفولتها، وتتذكّر شكل أمها عبر تركيزها على النقطة السوداء التي أمامها. استمرّت العملية حوالي عشر دقائق، فبدا على وجهها بأنها نائمة، وأثناء مغادرته باب المنزل، دسستُ في يده مئتي ليرة سورية، مقابل هذه الخدمة.
ما كدت أعود إلى غرفتها، حتى استيقظت من جديد، وبدأت تصرخ بشكلٍ هستيريّ: اتركوني اتركوني، فهي ترى صورة أبيها الذي مات وهي طفلة صغيرة، يمرُّ من أمامها.. التفتُّ ورائي، ولم أرَ شيئاً. لقد دخلت حالة الاحتضار، في حالةٍ من الهلوسة الممزوجة بالخوفِ الشديد، ربما ترى أشياء لا أستطيع رؤيتها. لن تعود بعد هذه المرحلة للحياة مرّة أخرى، وأمها جالسة على طرفِ الفراش مردّدةً: إذا ماتت فسأقتل نفسي.
خطر لي ساعتها، أن لمياء لطالما لا تزال تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وفي حالة اللاوعي، فإن روحها لن تغادر جسدها.. اكتشفت عمتي هذه الحقيقة بحاسّتها السادسة، فشعرت بالسعادة، وتصورّت بأنها تستطيع أن تحتفظ بابنتها في هذه الوضعية على الدوام، لكن لمياء لم تتوقف عن البكاء، وهي تناشدنا أن نتركها، لأنها لم تعد تتحمّل العذاب. أصبح الموقف مخيفاً، حاولت أن أوقظها من وضعية التنويم المغناطيسي، بكلّ الطرق التي أعرفها ففشلت. أنينها يزداد قوةً، مسبّباً الطنين في أذني: اتركوني اتركوني، لم أعد أستطيع أن أتحمل، أريد أن أموت وأرتاح، وعمتي تتظاهر بأنها لا تسمع هذا الصراخ. لقد كان كلّ ما يهمها، أن تبقى جثّة ابنتها تتنفّس معها في البيت.
طلبتُ من عمتي أن تُحضرَ لي فنجاناً من القهوة، فأعصابي لم تعد تتحمّل، وأنا على شفير انهيارٍ عصبي، وعندما تأكّدت أنها أصبحت في المطبخ، قمت من على الكرسي، وأخذت المخدّة الموجودة على السرير، ووضعتها على وجهها، وأطبقت يديَّ على المخدة، وأنا أضغطها بكلِّ قوتي، والغريب أنها لم تبدِ أيَّ مقاومة، وكأنها كانت تشعر بسعادةٍ من هذا الألم الفائق.. بعد لحظاتٍ توقّف جسمها عن الارتعاش، وسكتت إلى الأبد، ورحلت عن هذا العالم، الذي لم تعرف فيه سوى الشقاء.

التاريخ: الثلاثاء26-10-2021

رقم العدد :1069

 

آخر الأخبار
بعد حسم خيارها نحو تعزيز دوره ... هل سيشهد الإنتاج المحلي ثورة حقيقية ..؟  صرف الرواتب الصيفية شهرياً وزيادات مالية تشمل المعلمين في حلب  استجابة لما نشرته"الثورة "  كهرباء سلمية تزور الرهجان  نهج استباقي.. اتجاه كلي نحو  الإنتاج وابتعاد كلي عن الاقتراض الخارجي  الهوية البصرية الجديدة لسوريا .. رمز للانطلاق نحو مستقبل جديد؟ تفعيل مستشفى الأورام في حلب بالتعاون مع تركيا المؤتمر الطبي الدولي لـ"سامز" ينطلق في دمشق غصم تطلق حملة نظافة عامة مبادرة أهلية لحفر بئر لمياه الشرب في معرية بدرعا السيطرة  على حريق ضخم في شارع ابن الرشد بحماة الجفاف يخرج نصف حقول القمح الإكثارية بدرعا من الإنتاج  سوريا نحو الانفتاح والمجد  احتفال الهوية البصرية .. تنظيم رائع وعروض باهرة "مهرجان النصر" ينطلق في الكسوة بمشاركة واسعة.. المولوي: تخفيضات تصل إلى 40 بالمئة "الاقتصاد": قرار استبدال السيارات مزور مجهولون في طرطوس يطلبون من المواطنين إخلاء منازلهم.. والمحافظ يوضح بمشاركة المجتمع الأهلي.. إخماد حريق في قرية الديرون بالشيخ بدر وسط احتفالات جماهيرية واسعة.. إطلاق الهوية البصرية الجديدة لسوريا الشيباني: نرسم ملامحنا بأنفسنا لا بمرايا الآخرين درعا تحتفل .. سماءٌ تشهد.. وأرضٌ تحتفل هذا هو وجه سوريا الجديد هويتنا البصرية عنوان السيادة والكرامة والاستقلال لمستقبل سورية الجديدة