الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:
هل خطر لأحدٍ ما، بل لمستكشفٍ عاقل، أن يقرأ ما في عقلِ الإرهابي، بل ما في رأسه؟.. أن يتسلّل إلى تفكيره، ويرافقه خلسةً حيث يمضي في رحلتهِ، التي تنتهي إلى جحيمٍ، سوّل له غباؤه وجهله، أنه سيكون جنّته بعد أن يحرق أرواح آلاف الأبرياء، بل وروحه أيضاً..
نعم، لقد خطر لأحدهم فعل ذلك، وهو الرائي – المستنير، الذي ومثلما يعرفُ كيف يقرأ الحياة جيداً، ليرتقي بأبناءِ قلبها، يعرف كيف يقرأ أفكار الإرهابيين، لمعرفة كيف يفكّرون، وبمن يتأثّرون، وهلْ هم مقتنعون فعلاً بما يقترفونه، أم إنهم مُستلبون ينفّذون ما يوسوس به الشياطين الدُعاة، الذين يقودونهم إلى حيث هلاكهم، بعد غسلِ أدمغتهم.
أما عن الرائي، فالأديب والمفكر اللبناني «دريد عوده»، وأما عن ذاك الإرهابي، فـ «أبو قتادة» الذي فجّر نفسه: «في الحي حيث وُلِد وترعرع وتعلّم، فجّر نفسه بأبرياءٍ مدنيّين من أبناء جِلدته، لكنه يعتبرهم كفّاراً ومرتدّين، وضالّين وجب قتلهم».
يقرّر «عوده» القيامِ برحلةٍ داخل رأس هذا الإرهابي، لمعرفةِ كيفَ تحوّل من إنسان عادي إلى مجرمٍ انتحاريّ.. يقرّر أيضاً، وبعد رحلته هذه، القيام برحلةٍ أخرى، يراقب فيها ما آلَ إليه مصير الإرهابي بعد موته، بل والعقابُ الإلهي.. بدأ رحلته، عندما رأى «أبو قتادة» يفجّر نفسه، يقيناً منه بأن مافعله، هو «جهاد في سبيل الله، وطمعاً بالجنّة وحورياتها»..
هكذا كانت بداية الرحلة، التي تعقّب فيها «عوده»، أولئك «المضلَّلون» الذين أدرجهم ضمن روايةٍ «تنتمي إلى الرواية المجازية، ويمكن إدراجها في خانة «أدب الفانتازيا». لكنها فانتازيا سوداء، دكناء، وجوديّة حتى العدميّة المطلقة.. فهي تسافر مع روح مريضة، عدمية: «يسكنها مرشدها إلى الضلال في الحياة، وبعد الممات، حتى العدم».
الرواية وكما وصفها كاتبها: «تغوص في غياهبِ العقل التكفيريّ، بكلِّ تشوهاته الأخلاقيّة والإنسانيّة، ومتاهاته الفكريّة العبثيّة، وغيبياته الدينيّة حيث تُكتَب «فانتازيا» الجنّة، بدماء أبطالها وضحاياهم».
يتساءل «عوده» هنا، عمّا حلّ بـ «أبي قتادة» بعد الموت؟!.. وما الذي حصل معه في «يقظة القبور» على يدِ ملاكَيّ الموت، منكر ونكير؟.. وماذا حصل معه في «الجنّة الموعودة»؟.. وسوى ذلك من الأسئلة التي لم يطرحها، إلا ليؤكّد عمق سفره، في تلافيفِ رأسٍ، جعل روايته:
«رواية «عصر أنوار» تقبل مؤقّتاً بشروطِ «القرون الوسطى»، بل العصور الحجريّة لأبطالها؛ تقبلُ بكلِّ غيبياتهم وظلامياتهم: نورٌ يقبل بشروط الظلمة، وينساب معها إلى جحيمها النعيميّ، إلى نعيمها الجحيميّ».
لقد ارتضى «عوده»، أن يفرض الإرهابي «أبو قتادة» عليه، سيناريو الدم، ومن داخلِ النصّ.. ارتضى ذلك، لأنه أراد أن ينقل هذا السيناريو الدمويّ المريع والموجع، بأمانةٍ لا يهمّه فيها الإرهابي، بل دماء ضحاياه.
إنها وكما سماها «الكوميديا الإلهية»، فانتازيا الجنّة الجنائزية».. يواكب مشاهدها، ويقلّب في صورها، ليقول وهو يتابع كوميديا إلهّية أخرى، ليتعرّف إلى مصير الإرهابي الذي انتهى في جهنم، لا في الجنّة كما كان قد توهّم:
«هناك، في كلِّ مكان، في جهنّم المَطْهَر والجنّة، كان مرشده الشيخ «عبد الرحمن» بالصوت والصورة؛ يسكنه كروحِ شبحٍ، كما في الأرض، كذلك في السماء.. و(شتّان شتّان بين فيرجيل وعبد الرحمن)».
نتوقف هنا، دون أن نصدّق، أن «الرواية تضحك على كاتبها ذي النزعة التنويريّة العقلانيّة المتشدّدة؛ تحتال عليه وتأخذه حيث يريد بطلها اللاعقلاني بتشدّد: تأخذه في «كوميديا إلهية» هي تراجيديا بشر. تأخذه في «فانتازيا جنّة» جنائزية بامتياز».. لا نصدّق ذلك، رغم أن ما أعلنه:
«أخذني «بطل» روايتي المضلَّل حيثما أراد: أراد أن يَقتُل ويُقتَل، جهاداً في سبيل الله، فذهبت معه إلى مسرح الجريمة. أراد أن يصعد إلى الجنّة وحورياتها، فذهبت معه في مسرحيته الكوميدية الإلهية إلى مسرح الفانتازيا. حدّثه مرشده إلى الموت (ودائماً من داخل النصّ أو الموروث الديني) عن يقظة القبور، وعمّا سيحدث له هناك مع ملاكَي الموت، فسقطت معه إلى الجحيم»..
حتماً، لم يكن الجحيم إلا للإرهابي.. ذلك أن عقابه كان عودته إلى الأرض، كي يرى ما اقترفه انقياده وراء شهواته الأرضية، تلك الشهوات التي يجرجرها كلّ الإرهابيون إلى السماء، فيكونون وكما وصفهم «عوده»:
«أن تصل إلى القتل، إلى إلغاء حياةٍ ما، من أجل أفكارك ومعتقداتك الدينية، فهذا يعني أنك عبدٌ لها، وعبودية العقل والروح، العبودية للأفكار، هي أعتى العبوديات لأنها العدمية ذاتها.. أن تصل إلى إلغاء حياة ما من أجل فكرة أو عقيدة أو مذهب أو دين فهذا يعني أنك عبد الطوطم؛ أنك إنسان يسوقكَ وثنك الفكريّ، عبد صاغر في سوق نخاسة الأفكار وتجارة الأديان».
التاريخ: الثلاثاء26-10-2021
رقم العدد :1069