مساكين «دوستويفسكي».. يلبسون معطف «غوغول»

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

يقول الأديب الروسي «نيكولاي غوغول» المعروف بتعريته الشاملة لكلّ النماذج التي تنخر في بنية مجتمعه، عبر الرشوة، الوساطة، الفساد، السرقة، الكذب، التخلف، البخل، القسوة، الضعة، الابتذال، التفاهة:
«لربما أكون قد أغضبت بعض من يدّعون الوطنية، الذين يقبعون قرب النار، مهتمّين بأعمالهم الصغيرة التافهة، أو يزيدون ثرواتهم، ويبنون سعادتهم على حساب الآخرين.. لكن، ما إن يقع حادث يسيءُ برأيهم إلى الوطن، وما إن يصدر كتاب يعرض لحقائقٍ قاسية، حتى يهتزّوا ويجنّ جنونهم، وكالعناكب حين ترى ذبابة عالقة بخيوطها، يصيحون: ما الفائدة من كشفِ هذه الأمور؟!! وما الذي سيقوله الأجانب عنا؟.. إنهم سيكوّنون رأياً سيئاً.. يا للمصيبة، لقد انعدمت الوطنية»..


إنه يسخر هنا، من كلّ من ينتمي إلى تلك النماذج، ولا سيما الإقطاعيين وملاّك الأراضي، الذين كانوا سبباً في بؤسِ وشقاءِ الفقراء والمساكين، فقد صبّ نقمته عليهم، ساخراً منهم ومحتقراً صورهم، التي أحالها إلى حكايا رواها بمرارةٍ ساخرة، وبشعور الكاتب الذي رآه:
«سعيدٌ ذاك الكاتب، الذي يختار من الأوساط المنحطّة، الشخصيات الشاذة، فلا يخون إلهامه، ولا ينحطّ إلى مستوى هؤلاء، بل ينطلق إلى الأجواء الأثيرية، حيث لا تعيش غير المخلوقات الجميلة.. إن مثل هذا الكاتب، يُحسد على شيئين، فهو في محيطه يصف هذه الأجواء أولاً، ونجده أبعد صدى ثانياً، ذلك أنه يضع ستاراً كثيفاً، على عيون الأشخاص الذين يصفهم ليحجب عنهم أحزان الحياة..»..
هذا ما وصف به «غوغول»، المعروف برائد السخرية في العالم، أولئك الذي رآهم: «يعيشون في هذا الوجود لا كشخصيّاتٍ مستقلّة قائمة بذاتها، بل كالبقع واللُّطَخ على شخصيّات الآخرين».. وبسبب تعاليهم وجشعهم وإغراقهم للفقراء، بالبؤس والشقاء والعبودية.. الفقراء الذين تعاطف معهم، معلناً قلقه تجاههم، وتجاه معاناتهم، وبجرأةٍ عُرف بها، وعرّف جميع من تلاه من الكتّاب بقولها:
«الكاتب الذي يجرؤ على وصفِ ما لا تراه العيون العادية، ويغترف من آنيةِ مصائب الحياة، معرِضاً عن الشخصيات البائسة المسكينة، الغارقة في الانحطاط، ليس له أن ينتظر تصفيق الجماهير.. ذلك أنه لن يرى أبداً دموع الإعجاب، ولم يشعر بحماسِة القلوب، وهو نفسه لن يغيب عن وعيه، مأخوذاً بروعة أعماله..».
يبدو بأنه كان على حقّ، بل كان كذلك فعلاً، وبدلالة استعارة كُثر من كتّاب روسيا معطفه.. معطف الإنسان الفقير، المقهور، البائس، المظلوم، المقموع، المُنتهَك، بصرف النظر عن مكانته، وصفاته، وشخصيّته..
أما أكثر من تأثر به، فأديب الإنسانية «دوستويفسكي» الذي اعترف بذلك، والذي نُسبت له الجملة الشهيرة، التي بات يُطلقها كلّ الكتاب الروس: «كلّنا خرجنا من معطف غوغول».
يلاحظ القارئ المهتمّ هنا، بأنه ومثلما تمّ اعتراف أدباء روسيا، بخروجهم جميعاً من معطف «غوغول»، تمّ اعترافهم أيضاً، بأنهم خرجوا من منجم الذات البشرية التي كان «دوستويفسكي» يحفر عميقاً فيها، بل من غرفة «المساكين» حيث الفقراء والبؤساء «مذلّون مهانون» وهو فيهم كـ «رجل السراب» الذي لم تلاحقه صور شقاء وأوجاع الإنسان البائس واليائس فقط، بل وذكرياته وتناقضاته ومقامراتهِ وصراعاته، وسوى ذلك مما عاشه مع السجناء الذين التقى بهم، وعايش قصصهم، «ذكريات من منزل الأموات» الذي تعلّم فيه، بأن «من يختبئ في ظلِّ أكثر الناس طيبة ووفاء، بل تحتّ ظلّ الإنسان بهدف خداعه، هو وحشٌ كاسر»..
هذا المنجم الإبداعي والإنساني، عاشَ عمره وهو يشعر بأنه وحيدٌ، ولا أحد يشاركه عزلته إلا آلامه وعلّته.. لا أحد يمسح دموع فزعه، أو يعانقه كي يهدأ.. مع ذلك، حافظ على إيمانه بالإنسان، حدّ تعاطفه معه في أغلب رواياته، فقد كانت رؤيته: «اعلموا أنَّ هناك حدّاً للغمِّ والقهرِ والنكَد، الذي يُحدثهُ في نفسِ الإنسان، شعورهُ بأنه لا شيء، وبأنهُ عاجزٌ..».
إذاً، ومثلما استعار «دوستويفسكي» معطف الفقر والبؤس والشقاء الذي ألبسه «غوغول» لأبطاله، استعار كُثرٌ من الكتّاب الروس أيضاً، هؤلاء الأبطال، مشيرين إلى أنهم «مساكين» و «مذلّون مهانون» من قِبل «الشياطين» أولئك الذين أشار «دوستويفسكي» إلى أنهم من سوّد الحياة في عيونِ الفقراء، إلى الحدّ الذي حرموهم فيه حتى من أحلامهم، فباتوا يتشهّون العيش ولو ليلة واحدة من «الليالي البيضاء»:
«بعدَ ذلك تسأل نفسك، أين ضاعت أحلامك»؟!!..
ستقوم بهزِّ رأسكَ وأنت تُهمهم: «ما أسرع مرور الوقت»!.. تعيد سؤال نفسك مرة أُخرى، ما الذي قمتَ بفعله في فترة حياتك؟.. وأين دفنت أفضل سنوات عُمرك؟!.. وهل كُنتَ على قيدِ الحياة أم لا؟!!»..

التاريخ: الثلاثاء23-11-2021

رقم العدد :1073

 

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص