في غمرة ما نحن فيه من ضنك العيش وصعوبة الحياة، جراء العواصف التي لا تهدأ وهي تهب علينا حصاراً من الخارج وتعباً من قرارات غير مدروسة في الداخل وكي يكون وطننا عزيزاً كريماً وسيداً في توجهاته وحراً في قراراته، مستقلاً غير تابعٍ ولا راكع..فإننا بحاجة إلى إجراءات خلاقة مبدعة للتصدي بقوة لواقعنا المعيشي المتردي وإلى حكومة تسهم فعلياً – كما وعدت على الأقل – بتحسين الأحوال وضبط الأسواق وابتكار رافعة تكون قادرة على رفع القوة الشرائية لليرة التي يزداد ثقلها يوماً وراء يوم كلما تراجعت أمام العملات الأخرى، وإذ بقوة تلك الرافعة أضعف بكثير من القدرة على إنجاز أي زحزحة لليرتنا وهي تهوي في ذلك المنحدر، ولا حتى على تثبيتها في مكانها الخطير الذي وصلت إليه بعد أن حققت خسائر باهظة، فقد باتت اليوم وكأنها مجزّأة إلى نحو خمسة آلاف جزء، ونتعامل مع كل جزءٍ من هذه الخمسة آلاف وكأنه جزء كامل..!
فالرواتب التي ربما يكون متوسطها نحو 100 ألف ليرة سورية، وهي تمثّل اليوم وسطي الدخل، كانت قيمتها الشرائية – لو أنها قبل الأحداث – لا تقل عن سبعة ملايين ليرة قياساً بأسعار صرف الليرة مقابل القطع الأجنبي، بينما قيمة هذه المئة ألف ليرة اليوم لا تساوي أمام قيمة الليرة الشرائية – قبل الأحداث أيضاً – وقياساً بسعر الصرف أكثر من 1428,5 ليرة، لأن المئة ألف ليرة تساوي اليوم ببساطة قياساً بالدولار مثلاً 28,5 دولار، بينما المئة ألف قبل الأحداث كانت تساوي ألفي دولار..!
على كل حال في غمرة هذا الواقع البائس فعلاً.. وهذا العجز العجيب، وهذا الحصار الضاغط، التي تجتمع علينا وحولنا لتضيق بنا الآفاق، يأتي المؤتمر العربي للمدن والمناطق الصناعية الذي انعقد في دمشق مؤخراً ليوقد في أعماقنا أحلاماً مخملية حلوة، ويضعنا على عتبة آمالٍ عريضة وآفاق رحبة أشبه بالخيال رغم أنها صارت عند غيرنا واقعاً حقيقياً على الأرض، فقد أوصى المؤتمر بضرورة التوجه نحو الاقتصاد الرقمي للوصول إلى الحياة في المدن الذكية.
والمدن الذكية – يا شباب – تتجاوز في حسنها والسعادة التي بداخلها مدينة أفلاطون الفاضلة، ففي المدن الذكية خدمات وافرة من كل شيء، ومداخيل عالية ومتاجر على كيفِ كيفنا، كهرباء ذكية لا تنقطع، أنترنت (طلقة) بلا توقف ولا عصر ولا تطحير، وسائل نقل كافية ووافية وتزيد، ومرفهة ورخيصة، بنزين بحر.. مازوت نهر . غاز حدّث ولا حرج، رز سكر شاي زيت فراريج خواريف وسمك بني وأزرق وأحمر، ومنغا مصرية بلونين وبعشرين لون، وما علينا إلا أن نشتهي ونتمنى.
المدن الذكية حقيقة ترتكز على الاقتصاد الذكي، والأشخاص الأذكياء الذين يمثلون رأس المال البشري والاجتماعي، والشفافية والمشاركة الذكية في القرارات، والنقل الذكي القائم على التكنولوجيا الحديثة، والبيئة الذكية، والحياة الذكية التي تهتم بالأوضاع الصحية وسلامة الفرد والتمتع بمرافق تعليمية وسكن وترابط اجتماعي جيد، فهل يمكننا الوصول يوماً – مثلما وصل غيرنا – إلى مثل هذه الآمال والأحلام ..؟! هو في الواقع لا شيء مستحيل.. وإن كان المستحيل يكمن في جوهره التحول من حالٍ إلى حال فنحن بانتظار هذا المستحيل ما دام هناك رجالٌ يدفعون بهذا الاتجاه، مهما كانوا اليوم قلّة.. فغداً أكثر.. وبعده أكثر وأكثر.. فمن يدري..؟!
على الملأ – علي محمود جديد