بين التقاليد التي كرستها أيام الفن التشكيلي السوري منذ موسمها الأول تكريم ذكرى ثلاث من الفنانين الراحلين، وكان التكريم في الموسم الرابع أواخر العام الماضي من نصيب اثنين رحلا خلال العام: الفنانة سوسن جلال، والنحات فؤاد أبو عساف. ورثتهما الكثير من كتابات الزملاء والأصدقاء والمثقفين. أما تكريم ذكرى الأقدم فقد كان من نصيب ميلاد الشايب بن معلولا الأصيل، والأصيلة، الذي رحل عن دنيانا مع مطلع القرن الجديد. الفنان والمعلم الرائع الذي منح مهنة التعليم نكهة أبوية تدوم لزمن أطول بكثير من الوقت الذي منحته له الحياة.
خلال الأشهر الماضية سجلت لمؤسسة (وثيقة وطن) عدداً كبيراً من اللقاءات مع الفنانين التشكيليين في إطار مشروع المؤسسة الخاص بتوثيق الفن التشكيلي السوري، وقد لفت الانتباه يوم ذاك أن ذكريات معظم الدارسين في كلية الفنون الجميلة قد أشادت بالمعلم ميلاد الشايب، ولم يكن الأمر مستغرباً للعارف بحال الكلية، فقد كان من أول الوجوه التي يقابلها الطلاب منذ ستينات القرن الماضي وحتى خواتمه، إن لم يكن الوجه الأول الذي يقابلونه. وعلى يده تعلم معظم من مروا على الكلية، كأساتذة وطلاب مميزين، كيف يمسكون بقلم الرصاص وكيف يخططون به الرسم وينقلون عن الواقع. وكثيراً ما اصطحب طلابه لمعلولا ليتابعوا نهج الفنانين السوريين الكبار في تصوير هذه البلدة الفريدة، مانحاً إياهم معرفته وخبرته ومحبته، وكأنه يرعى أطفالاً صغاراً لا طلاباً جامعيين. والأغرب أن اعتداد هؤلاء بعمرهم الفتي لم يحل دون الاستسلام، برضى، لحالة طفولة تشوقوا باكراً لمغادرتها.
تخطت سمعة ميلاد الشايب كأستاذ بارع حدود الكلية، حتى صار الطلاب الراغبون في الانتساب إليها يلجؤون إليه لتعلم مبادئ الرسم على يديه. وكان كثير من أساتذة كلية الفنون الجميلة يحيلون إليه الطلاب الراغبين بالانتساب للكلية حتى يدربهم. وعلى مدى سنوات كثيرة قام بهذا العمل طوعاً دون أدنى تذمر. وقد كان التدريس أحد أمرين كرس حياته لأجلهما، أما الأمر الثاني فهو رسم الأيقونات والمشاهد الدينية، فتكاد لا تخلو كنيسة دمشقية أو في ضواحي دمشق من عملٍ، أو ربما أعمالٍ موقعة باسمه. وهذان الأمران هما ما جعل اسمه يغيب عن الذاكرة حين الحديث عن الفن التشكيلي السوري، رغم امتلاكه تجربة عالية الأهمية، وأعمالاً (رغم ندرتها) على سوية فنية وجمالية مرتفعة.
عاصر ميلاد الشايب، المولود عام 1918، توفيق طارق، رائد الفن السوري، ورسم معه. وفي سن الثامنة عشرة نال جائزة برونزية من معرض عام 1936 الذي أقيم في مبنى وحدائق ثانوية التجهيز الأولى بدمشق (حالياً ثانويتا جودت الهاشمي، وابن خلدون)، بمناسبة الإفراج عن المبعدين السياسيين الوطنيين والسير في طريق الاستقلال، وكان أكبر معرض عرفته المدينة قبل معرضها الدولي، وعُرضت فيه بعض المصنوعات المحلية وبلغ عدد زواره 500 ألف زائر. وقد نال ميلاد الشايب الميدالية عما سمي ذلك الوقت بصناعة الرسم اليدوي، لأن المعرض أساساً كان معرضاً صناعياً أُلحقت فيه الفنون. درس الفنون في معهد (سوريكوف) بموسكو وتخرج منه في عام 1965. وفي عام 1968 نال جائزة الدولة التشجيعية من المجلس الأعلى للفنون والآداب. وتكريم رئيس الجمهورية مع الفنانين الرواد بميدالية ذهبية تقديراً لعطائه المميز عام 1996، وكرمه البطريرك أغناطيوس هزيم بوسام النجمة الفضية.
في عام 1981 أقامت مجموعة من الطلاب إثر تخرجهم معرضاً في المركز الثقافي السوفيتي بدمشق تحت عنوان :(تحية إلى ميلاد الشايب) افتتحه الفنان فاتح المدرس وكتب في تقديمه: « شاهدت ابتسامته؟.. إنها حزينة، بريئة، ساخرة.. لكن هل شاهدت قلم الرصاص وكيف يرقص في يده؟.. إنها رقصة زمن الحضارة في قلوب الفنانين الكبار أمثال فنان معلّم.. فما أروعه من فنان معلّم..».
إضاءات –سعد القاسم