الثورة – أديب مخزوم:
في وقت متزامن مع مرور الذكرى السنوية لرحيل الفنان والناقد التشكيلي غازي الخالدي ( 1935- 2006)، أقيم في نهاية العام الماضي 2021، وضمن أيام الفن التشكيلي السوري، أسبوع الاحتفاء بمسيرته الفنية الريادية الغنية بالنشاطات والمعارض، إضافة لدوره الحيوي حين كان نقيباً للفنون الجميلة، ولقد شكلت هذه الفعاليات التكريمية امتداداً لأسبوع تكريمي مماثل أقيم في نهاية عام 2019 في ثقافي العدوي، وتضمن معرضاً وندوة تكريمية حول دوره الريادي، ومساهمته في بروز تيارات الحداثة والعفوية اللونية في اللوحة الحديثة والمعاصرة.
وبالعودة إلى بداياته، يشير الخالدي في أحاديثه، إلى أن والدته ساهمت كثيراً في دفعه باتجاه دراسة الفن في القاهرة، وكان لها الفضل الأول في رعاية موهبته وإيصاله إلى مرحلة البروز والتألق. وكان غازي الخالدي يذكر بإعجاب أستاذه الفنان الكبير الراحل حسين بيكار الذي دفعه نحو المزيد من المثابرة والمغامرة والبحث الجدي، ولقد أفسحت له دراسته الأكاديمية في القاهرة المجالات الشاسعة لرحلة الكشف التلقائي عن الأفكار التشكيلية، التي كانت تحمل تطلعات الحداثة ضمن إطار الواقعية التعبيرية أحياناً والواقعية الرمزية أحياناً أخرى، وحين استعاد في لوحاته مجد اللمسة اللونية التلقائية أو العفوية وتوصل إلى لونية محلية متوهجة ومختزنة في ذاكرته البصرية، وكان همه في جميع مراحله البحث عن البحور اللونية الشرقية وهنا تبرز نقاط الالتقاء والاختلاف عن المناخ اللوني الأوروبي. وإذا كانت الاتجاهات التعبيرية والوحشية لما بعد غوغان وماتيس وفلامنك ودوفي قد قدمت له الحرية التعبيرية في معالجة اللمسة أو المساحة الجانحة في أحيان كثيرة نحو التسطيح، فإن المناخ اللوني الشرقي قدم له الوهج والبريق والشراق الضوئي.
ولقد أصدر مجموعة من الكتب الفنية، كما دخلت بعض مؤلفاته ضمن المناهج التعليمية الخاصة بطلاب المعهدين العاليين للمسرح والموسيقا، إلى جانب نشاطه في التدريس الفني الجامعي. ومساهماته في تأسيس العديد من الاتحادات والنقابات من ضمنها نقابة الفنون الجميلة واتحاد الكتاب العرب واتحاد الفنانين التشكيليين العرب.
ولقد أنجز العديد من اللوحات الجدارية البانورامية الكبيرة، ومثل سورية في العديد من المؤتمرات العربية والدولية وشغل منصب نقيب الفنون الجميلة، وعمل في منظمة الطلائع لسنوات طويلة حيث امتلك خبرة في مجال التعامل مع الأطفال من المنطلقات التربوية الحديثة.
وجاء رحيله بعد أن حقق حلم حياته بصدور كتاب: «الخالدي 1950 – 2000» بإيعاز من اتحاد الفنانين الأوروبي ويتفويض من مؤسسة هديسون للطباعة والنشر في لندن، وهو يقع في 300 صفحة من الحجم الكبير ويوازي في إخراجه وطباعته أجود الكتب الفنية الأجنبية ويتضمن ذاكرة التجربة الفنية والكتابات والصور الوثائقية التي تمتد إلى 65 عاماً في بعض الأحيان حين كان غازي الخالدي في الخامسة من عمره. فالصور الضوئية المنشورة تعيدنا إلى زمن الأبيض والأسود إنها صور مأخوذة من ألبوم شجرة العائلة، وبعضها الآخر مأخوذ من معارضه، مع شخصيات سياسية وإعلامية وفنية وأدبية بارزة، وتعتبر بمجموعها بمثابة مدخل وثائقي يلقي أضواء على نشاطاته حسب المفاصل المختلفة.
فالكتاب يظهر كوثيقة فنية تنقلنا مباشرة إلى تفاصيل السيرة الفنية والذاتية، حيث المواقف الصريحة تجاه الفن والحياة والمجتمع والسياسة ولقد جاءت الكتابات بأقلام مجموعة من النقاد والفنانين والأدباء، من ضمنها دراسة نقدية تحليلية مطولة كتبها فرانسوا بيريجيرك أستاذ النقد وعلم الجمال في جامعة السوربون.
والكتاب بهذا المعنى يشكل مدخلاً للأجيال القادمة، لأنه خلاصة لتجربة ومعاناة وكفاح فنان اعتبر الفن رسالة وبأن أهم حدث ثقافي واجتماعي في حياة شعب، يتمثل في قيام نهضة فنية فيه. كان في لوحاته الحديثة، يجسد الأحياء والبيوت القديمة والوجوه والعاريات والخيول والمناظر الطبيعية والريفية والأشكال الصامتة ضمن صياغة تشكيلية تتفاوت بين الواقعية الجديدة والتعبيرية والوحشية والرمزية.
وكان على الدوام بمثابة الزاهد المأخوذ ببريق الألوان المحلية والأجواء الشرقية التي بلورت تلقائيته وعفويته، وساعدته على تحقيق الانفلات المبكر من قيود المنظور التسجيلي التقليدي، فاللون الأحمر على سبيل المثال كان يضعه على سطح اللوحة بعنف وحشي واضح، الشيء الذي يؤكد نبض الحياة الشرقية التي تعصف وبشكل ملتهب في لمساته اللونية بحركاتها العنيفة والصارخة.
فهو لم يقدم لنا لوحات تجريدية أوروبية، وإنما قدم لوحات مرتبطة بهاجس تراثي وبيئوي وتطلع حيوي نحو الاستعانة بالرموز الوطنية والقومية. هكذا ازدادت قناعته يوماً بعد آخر، بضرورة التعلق بالوهج اللوني الموجود في حياتنا اليومية أو في المشهد المحلي العام.
وهو في لوحاته يبقى على ارتباط بالواقع والصورة حتى حين يصل إلى حدود التبسيط والاستواء اللوني بحيث يمكننا الحصول على مساحات لونية تجريدية في المقطع الواحد أو في المساحة الواحدة من لوحته التعبيرية.