من جلجامش .. إلى دون كيشوت

 الملحق الثقافي:علم عبد اللطيف:

عند تناول مسألة الإبداع، وقيمته في الزمن، والقيمة التي يضيفها الزمن إليه، يجب الوقوف عند أعمال أو تراث بقي خالداً عبر الزمن.
عبور الأعمال الفنية أو الأدبية أو الفكرية الزمن، بمختلف تقسيماته، هو دليل زمنيتها، أي عدم انتمائها للحظة أو مرحلة، هي تعبر عن الزمن في لا نهائيته، أو في مطلقاته، وليس أجدر من الإنسان من فهم الزمن، وإنتاج ما يسايره عبر الأحقاب أو القرون أو العقود، فتغدو هي الزمن معبراً عن ذاته بطريقة الكاتب أو المنشئ.
في ملحمة (جلجامش) السومرية، يبدو الزمن يعيد قيمتها المتجددة بتجدد فهم الإنسان، ولا يعتقد أحد أن قيمة مضافة طرأت عليها بفعل قراءة جديدة لم تكن واردة عند من وضع الملحمة، فالقيمة أصيلة فيها باعتبارها إنتاجاً جمعياً للبشرية تطلب الأمر قروناً لاستقرارها ربما، كما أساطير الخصب وميثولوجيا تمثيل الآلهة للفصول.
بالعودة لملحمة (جلجامش) سنرى أن الزمن المتحول والمتطور، هو الذي قدم المادة الدرامية في الملحمة، فإن يكون البطل السومري (جلجامش)، قوياً وجباراً ومقتدراً، هو أمر لا يرقى به ولا بملحمته إلى مراقي الخلود، فيرد على الملحمة سياق درامي غاية في العمق والدلالة، هو شخصية (انكيدو).. ذلك الرجل البدائي القوي قوة تضاهي قوة (جلجامش)، وبتلاقي القوتين أو بتصادمها وصراعهما، كان لا بد أن يطرأ تحول على النسق الثابت في مسألة القوة والجبروت عبر زمن طويل كانت فيه بالفعل هي القيمة الأولى والأخيرة، فتتدخل الدراما الإنسانية لتضيف القوة الناعمة، المرأة التي استطاعت ترويض (انكيدو) الجبار، ويغدو بعد علاقته بالمرأة أكثر أنسنةً وليونة، وأقل قوة، هنا النقطة المفصلية التي جاءت بها الأسطورة كقيمة، فالقوة لا تكفي وحدها عبر الزمن لاستمرار صنع مجد الإنسان، وإذن فإن الحب الذي هو نتاج تطور عقلي وشعوري عند الإنسان، كان لا بد له من تلطيف مظهر القوة كقيمة وحيدة معتمدة في علاقات إنسانية جديدة صنعها الاجتماع الإنساني، وتكمل الأسطورة دراما السرد بموت (انكيدو)، فيجزع عليه صديقه (جلجامش) أيّما جزع، وتطرق عقله فكرة الموت، فما دام صاحبه الذي تواجها وتصارعا، ثم تصاحبا واتحدا قوة وروحاً، قد مات، فإن الموت لا بد أن يلاقيه هو..( جلجامش) يوماً، حقيقة أرعبت ذلك المتجبر القوي سليل الآلهة، فدأب يبحث عن الخلود الذي ترشده إليه الآلهة، وهو نصف إله لا يحمل بذرة الخلود، وحين يغوص في أعماق البحر ويستحضر عشبة الخلود التي دلته عليها أمه الإلهية، ويستلقي سعيداً بعد تعب على شاطئ البحر، تسرقها الأفعى وتغوص بها في اليم، ولن يكون بمقدوره البحث مجدداً عن الأفعى، فيسلم بقدر لا بد آتيه.
الملحمة إذن تقدم فهماً إنسانياً أولياً لعامل الزمن، وتمكن قراءة ذلك في التحول الذي لابد أن يطرأ على مسألة القيمة، فتنتهي قيم وترتفع محلها قيم أخرى أوجدها الزمن، الناس، في مغامرة تطورهم العقلي.
ولا يقف فهم وقراءة الزمن متمظهراً في أسطورة، أو في ملحمة واحدة، فنقرأ في أزمان متأخرة وبعيدة عن زمن الأساطير، أعمالاً تتصل بزمنية الفن والإبداع، نقرأ ملحمة جديدة في عالم الرواية، هي (دون كيشوت).. للكاتب الإسباني (سرفانتس دي سيلفا)، ونذكر هنا هذا العمل الروائي لأنه يتصل بموضوعة الزمن ودوره أولاً في تحولات الفهم عند الإنسان، وتالياً في تقديم الكتابة مشهدية مطابقة لمسألة التحول والتطور.
(دون كيشوت).. بطل رواية سرفانتس، لا يستطيع فهم مسألة التحولات والانتقال عبر الزمن بالأدوات كرافعة للتطور، وبالتالي التحول والتغير في مسألة القيم، لا يمكنه فهم أن زمن السيف والرمح قد انتهى لا إلى رجعة، ويعيش في دائرة عقل لا يبارح زمن النبالة والفروسية، فيبدأ رحلته مع خادمه (سانشو).. بحثاً عن أمجاد يحققها بسيفه، وحين يشاهد طواحين الهواء، التي لا تمت لعصر الفروسية بصلة استخدام، وترتقي في مشهدية المواجهة إلى قمة الترميز الفني، يواجهها بسيفه، فتسحبه بأذرعها وتلقيه بعيداً كخرقة، ويتكرر مشهد المواجهة بشكل مقلوب، حين يواجه كيشوت قطيع الأغنام، فيخاله جيشاً معتدياً قادماً إليه، فيعمل في الأغنام سيفه.
عبر رواية سرفانتس هذه نقرأ أن الزمن له قوانينه التي تنتج التحولات في الكون والتاريخ والمجتمعات، وإن لم نرها أو نقرأها في حينها، قوانين لا تنتظر قراءتنا ومباركتنا، وأن من يصر على البقاء في الماضي، فستطحنه طواحين الهواء العملاقة، محيلاً بذلك الكاتب إلى فهم متقدم، يذكرنا بها من يرفضون عيش العصر، ويصرون على عودة الزمن إلى الوراء وتكرار نسخه في السياسة والفكر، تيارات الأديان السياسة مثالاً.
زمن الأعمال الخالدة هو زمن معناها وعمقها، تساير الزمن وتصاحبه، وتتجدد قراءتها ربما عبر الزمن، فيأتي من يقدم قراءة جديدة ومختلفة، كما نشاهد في القراءات المتجددة لـ (الموناليزا).. أو(الجورنايكا).. أو ملاحم شكسبير المسرحية، (هاملت) أو (مكبث) أو (عطيل).

التاريخ: الثلاثاء11-1-2022

رقم العدد :1078

آخر الأخبار
الصناعيون يطرحون حلولاً إسعافية.. معامل السيراميك بين أزمة الطاقة والتهريب تكاليف الزواج تغتال فرح العرسان  هل يبنى الزواج على الحب..أم على الملاءة المالية ..؟! دراسات لمشاريع تنموية في درعا ضربات جوية تستهدف مناطق بريف إدلب تخلّف قتلى وجرحى كتّاب اللاذقية يطالبون بمشاركة أوسع وتحسين واقعهم المادي السورية للاتصالات: انقطاع الانترنت سببه عطل فني مؤقت تأمين مستلزمات العملية الامتحانية بالتعاون مع "اليونيسيف" الشرطة السياحية.. تعزيز للثقة بين السياح والمجتمع المحلي إزالة ألغام ومخلفات حربية في درعا  اقتصاد العيد.. يرفع حركة الأسواق 20 بالمئة السلم الأهلي.. ترسيخ القيم الاجتماعية والمبادئ السماوية د. عليوي لـ"الثورة": محاربة الجريمة بكل أشكا... ملك الأردن والرئيس اللبناني: أهمية الحفاظ على أمن واستقرار سوريا السّلم الأهلي.. يرسم ملامح سوريا ويخطّ مسارها الوطني تأمين نقل للمراقبين والإداريين المكلفين بالامتحانات في جرمانا "يديعوت أحرونوت":  استغلال ولاية ترامب للتوصل لاتفاقيات مع الدول العربية  توزيع بطاقات الامتحان بحلب لطلاب التعليم الأساسي اقتصاد " الأضحى"  نقلة جديدة.. السفكوني لـ"الثورة": محرك الأنشطة والإنتاج "سويفت" قاب قوسين.. د. كنعان لـ "الثورة": يحفز النمو والاستثمار في الاقتصاد السوري السياحة تعمم إجراءات السلامة والأمان في الشواطئ والمسابح فضل عبد الغني: رفع العقوبات الأميركية عن سوريا تحوّل استراتيجي يفتح باب الفرص