هل المبدع.. حقّاً ابن زمانه البارّ؟

 

الملحق الثقافي:سلام الفاضل:

اختلفت أشكال الإبداع، والتعبير الأدبي على مرّ العصور، حيث كان للزمن وتطوره دورٌ محوريٌ ومهمٌ في تشذيب أشكال الإبداع، وتقليم أظفاره، وقولبته، وإعادة هيكلته، وتطوير آلياته وأدواته، ونقله من طور إلى أطوار أخرى.
فالشعر الجاهلي مثلاً الذي عُرف بجزالة ألفاظه، وغرابة مفرداته، وحُسن سبكه، واعتماده على المقدمات الشعرية، وعناصر البيئة المحيطة بالشاعر، تغيرت ألفاظه، وأدواته بمجيء عصر النبوّة، وما تلاه من عصور إسلامية لاحقة، وصولاً إلى العصر العباسي الذي بلغ فيه الشعر العربي أوجه من النواحي كافة، وداخلته مفردات جديدة جاءت من علوم أخرى لمع نجمها في ذاك العصر؛ والشعر الأندلسي كذلك الذي برع فيه ناظموه باختيار المفردات الرهيفة التي تشي بما خالط هذا العصر من رخاء في المعيشة، وارتفاع في البنيان، وجمال البيئة المحيطة، وانفتاحها على ثقافات وحضارات أوروبية متنوعة.
إذاً، لا يخفى على أحد، بعد إدراج المثال السابق، ما كان للزمن وتقلب أحواله، وتغير أطواره من تأثير بارز على فنون الإبداع فيه، ولغتها، وأدواتها، وعلى مبدعي هذا الزمن؛ وللغوص أكثر في هذا الموضوع، وتقفي الآثار التي يرخيها الزمن على الفنون الإبداعية المختلفة، ومدى تفاعل المبدع مع تطور زمانه، وكيف يراه، سألنا د. محمد قاسم أستاذ مادة النحو والصرف في جامعة دمشق، ومدير مديرية إحياء التراث العربي في الهيئة العامة السورية للكتاب عن ذلك، فأجاب: «لا شك أن المبدع يعيش تحت ضغط زمان بعينه، ولكل زمان أعراف وقيم وتقاليد ومعايير نقدية يمليها على المبدعون الذين يعيشون في كنفه. والأديب البارع هو الذي يتفاعل مع هذا الزمان ويلبي حاجة العصر الذي يعيش فيه بما يعالجه في أدبه سواءً أكان رواية، أم قصيدة، أم نصاً مسرحياً، أم سوى ذلك؛ حيث يقدم في نصه ما ينسجم مع روح هذا الزمن الذي ينتمي إليه، فإن جافى الأديب أو المبدع معايير زمانه كان كمن لا يعيش فيه». ويتابع قاسم متناولاً موضوع الحكم على النص الأدبي من وجهة نظر زمانية، فيقول: «ومن الإنصاف أيضاً في هذا المجال، إذا حاكمنا مبدعاً على نص أنتجه، أن ننظر إلى هذا النص في الإطار الزمني الذي ولد فيه، لا أن نسقط عليه معايير زمن آخر، فلكل زمان معايير نقدية، وأشياء لا يستطيع المبدع أن يفتكّ من سلطانها، فإن ناقضها بدا كأنه يحلق خارج السرب، أو يكتب لزمن غير الزمان الذي يعيش فيه».
بدوره يرى المترجم د.غسان السيد أستاذ مادة النقد في جامعة دمشق، ومدير مديرية التأليف في الهيئة العامة السورية للكتاب: «إن وعي الإنسان عامة، والمبدع بشكل خاص يتطور مع الزمن، كما تتطور معارفه وأدواته النقدية، لتظهر إمكانية تغيير اتجاه الإبداع لاحقاً؛ كأن يبدأ مبدعٌ ما بكتابة مجموعة قصصية، ثم يتطور فيشرع في خوض مجال الكتابة الروائية؛ وعليه فإن الزمن كفيل بالتأكيد بتطوير وعي أي مبدع، بحيث قد يصل إلى مرحلة لا يرضى فيها عما قدمه في المراحل السابقة نتيجة هذا التطور الحاصل لديه في الوعي». ويتابع السيد مُعرجاً في كلامه على تفاعل الناقد وأدواته مع موضوعة تطور الزمن، فيقول: «كما أن الأدوات النقدية للناقد تتطور هي الأخرى من خلال زيادة المعارف، علماً أن المناهج النقدية لم يطرأ عليها أيُّ تطور جديد في السنوات الأخيرة، فالمناهج النقدية المعروفة هي التي كانت سائدة منذ الخمسينيات إلى السبعينيات، والثمانينيات من القرن المنصرم، والتطور الحاصل هو التطور في تطبيق هذه المناهج الموجودة على النصوص الإبداعية».
ولكل زمان،كما هو معروف، لغته الخاصة به، وتقنياته التي تميّزه، ومعانيه التي تختزل أوجه التقدم التي وصل إليها في الفكر، والرؤى، والأيديولوجيات؛ وإن كانت هذه المعاني، وتلك التقنيات لا تجد بُدّاً من الحضور والتغلغل في أوجه النشاط الإنساني المختلفة، فإنها لا بدّ أن تجد سبيلها إلى التعمق في مظاهر هذا الزمن الإبداعية، وفي لغة مبدعيه. ويوضح د.محمد قاسم هذا الأمر، قائلاً: «إن الزمن يتدخل في المعاني التي يعالجها الشاعر في قصيدته، أو الروائي في روايته، بل ربما أملى الزمن لون الإطار الذي يُسكب فيه النص الأدبي؛ فالشاعر نزار قباني مثلاً في مرحلة من مراحل إبداعه كان يكتب على وفاق القصيدة العمودية التقليدية، وفي أطوار أخرى من حياته الأدبية كتب على وفاق شعر التفعيلة». ويردف قاسم قائلاً: «وكذلك الحال مع الروائي محمد حسين هيكل الذي كتب رواية (زينب) في مطلع القرن الماضي، فمن يقرأ هذه الرواية يلاحظ اختلاف تقنياتها عن تقنيات العمل الروائي الآن، حيث ظهرت حديثاً تقنيات جديدة في صناعة الرواية: كحديث المونولوج، أو إقحام الزمن نفسه كأحد أبطال الرواية، كما في رواية (ما تبقى لكم) لغسان كنفاني، حيث كانت الساعة هي أحد أبطال الرواية؛ فينبغي على المبدع إذاً أن ينظر إلى الزمن، وأن يسدد ويقارب دون أن يمنعه الزمن أو الإطار من التحليق، أو استيلاد الصور أو الأشياء الجميلة التي يُدرجها في فنه».
من جانبه يؤكد د.غسان السيد تأثر أدوات الإبداع بالتطور الزمني من خلال سوقه مثالاً عن روايتين قام بترجمتهما، وهما: (جبل الروح) و(كتاب رجل وحيد) للكاتب الصيني الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام ٢٠٠٠ «غاو شينغجيان»، إذ يقول: «وأدوات الإبداع هي الأخرى تتأثر بهذا التطور؛ فروايات الحداثة، وما بعد الحداثة تتعدد فيها الأصوات، بمعنى أن تعبّر كل شخصية من الشخصيات الروائية عن نفسها بصوتها هي، وبعيداً قدر الإمكان عن تدخل الراوي، كما هو موجود في روايتي (جبل الروح) و(كتاب رجل وحيد)، إلى جانب ما تمتاز به روايات الحداثة، وما بعدها، من تكسير للحدث، وتكسير للزمن، وهذا يختلف عن الرواية التقليدية التي تبدأ من نقطة، ويتوافر فيها تسلسل تاريخي واضح، وشخصيات واضحة، ويعلو صوت الراوي بحيث يكون هو الصوت الوحيد المسيطر على أحداث الرواية كافة».
وفي الختام يمكننا القول إن الإبداع والزمن عنصران متداخلان، فإن تطور الزمن، لم يكن مبدعوه بمنأى عن ركوب موجة هذا التطور، فيسارعون إلى تغيير لغة إبداعاتهم، وأساليبها، وقوالبها، وصورها بما يتلاءم ومتطلبات الزمن الراهن.

التاريخ: الثلاثاء11-1-2022

رقم العدد :1078

آخر الأخبار
وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص