الملحق الثقافي:فؤاد مسعد:
ماذا يستطيع العمل الإبداعي الدرامي أن يفعله أو يحققه في المجتمع ؟ هل له دوره المؤثر حقاً أم إننا نتغنى بهذا الدور كشعار ليس أكثر؟ هل يمكنه تحريض واستنهاض الفكر والمساهمة في عملية التغيير والتطوير؟ وما حقيقة المساحة التي يلعبها في عملية التوعية والتنوير؟ أم هناك بون شاسع بينه وبين ما يمكن أن يقوم به على أرض الواقع؟ وإن كان الهدف الأساسي للعديد من الأعمال التسلية فقط هل استطاعت القيام حتى بهذا الدور على أكمل وجه بإطار راقٍ بعيداً عن خدش الحياء واللعب على الغرائز ؟.. كثيرة هي التساؤلات التي تجيب عنها بشكل أو بآخر العديد من التجارب عبر مسيرة الدراما التلفزيونية السورية.
مما لا شك فيه أن للأعمال الدرامية قدرة عالية على التأثير ويمكن من خلالها تسليط الضوء على مختلف مناحي الحياة عاكسة بشكل أو بآخر صورة بصرية عن مرحلة معينة لأنها تعتبر مرآة عن الواقع تنقل بتصرف وبرؤية فنية وإبداعية ما يمر به المجتمع من تغيرات وتحولات، فما لا يستطيع المبدع إيصاله إلى الجمهور عبر وسائل التواصل التقليدية أو عبر المحاضرات والندوات يمكن إيصاله بسلاسة عبر المسلسل التلفزيوني الذي عادة ما يكون أكثر تأثيراً وفاعلية، فهو يدخل كل منزل وغالباً ما يخاطب كافة الشرائج بلغتها عبر حكاية شائقة ممرراً ما يريد إيصاله من أفكار بعيداً عن المباشرة فيكون تلقفها أسهل.
وإن عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أعمالاً ناقشت الكثير من الهموم والمشكلات وسعت إلى التوعية، ففي مرحلة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ظهرت أعمال تحاكي مشكلات مهمة، كالتعليم ومحو الأمية والإرث والثأر والهجرة من الريف إلى المدينة إضافة إلى المقارعة بين العلم والدجل وبين الطب والخرافة .. وكانت هذه القضايا العامة محط أنظار المجتمع، وفي مرحلة لاحقة استطاعت الدراما كشف الحقائق وعملت على استشراف المستقبل وتحريض الفكر وإثارة الأسئلة، ومن الأمثلة مسلسل (أخوة التراب) إخراج نجدة أنزور وتأليف حسن م.يوسف الذي ناله في عدد من المحطات التلفزيونية الكثير من الحذف كما تم ايقاف عرضه على إحدى المحطات لأنه يكشف حقائق ربما هي مغيّبة عن كثيرين بما يتعلق بالاحتلال العثماني للمنطقة في فترة مضت، والأمثلة المجاورة لهذه الحالة عديدة ومنها مسلسلات تناولت القضية الفلسطينية كما في مسلسل (الشتات) إخراج نذير عواد وتأليف د.فتح الله عمر والذي استعرض نشوء الحركة الصهيونية.
يضاف إلى ذلك كله أعمال (على قلتها) انتصرت إلى قضايا المرأة وألقت الضوء على مشكلاتها بجرأة وواقعية حاملة حالة من التوعية ساعية إلى تناول عوالمها الحقيقية والغوص في مكنوناتها، فقدمتها صاحبة فكر لها رؤيتها في تغيير المجتمع، لا بل هي جندية تحارب الإرهاب ولها دورها في المقاومة الوطنية ضد المُحتل وشريك أساسي في التحرير والنصر ومتظاهرة رافضة الاستعمار، هي قاضية ومحامية وكاتبة ومفكرة وطبيبة وصاحبة منتديات أدبية وثقافية، وفي الوقت نفسه هي أم لها دورها المتقدم في بناء عائلة متماسكة واعية ومثقفة، وفي ظل التحولات التي مرت بها المنطقة والحروب التي جرت فيها عانت المرأة ما عانت من ويلات بما في ذلك الفقد والتضحية والتهجير والقهر واستشهاد الزوج لتمسي هي الأب والأم في آن معاً، ومن الأمثلة عن الأعمال التي قدمت رؤى تناصر قضايا المرأة مسلسل (أمانة في أعناقكم) إنتاج 1998 الذي تحدث عن تأسيس أول ناد نسائي في دمشق أوائل القرن الماضي وأكد أهمية تعليم المرأة ونيلها حقوقها كاملة، أما مسلسل (البيوت أسرار) إنتاج 2002 فنبه إلى الظلم الذي يقع عليها في حالات متعددة مثل عدم الإنجاب وتعدد الزوجات، وكلا العملين من إخراج علاء الدين كوكش، ومن الأعمال الأخرى نذكر مسلسل (حائرات) إخراج سمير حسين وتأليف أسامة كوكش، ومسلسل (حرائر) إخراج باسل الخطيب وتأليف عنود الخالد الذي قدم صورة مشرقة عن المرأة متناولاً ضمن مجرياته شخصيات مؤثرة كماري العجمي ونازك العابد.
رغم ما عاناه الإنتاج الدرامي من مصاعب وتراجع في السنوات العشر الأخيرة إلا أن العديد من الأعمال كان لها دور مقاوم عبر ملامستها للهمّ الوطني انطلاقاً من مكانة الدراما في القضايا الحاسمة والمفصلية، فتم إنجاز مسلسلات عكست ما تركته الحرب التي شنّت على سورية من تداعيات واستطاع البعض منها ملامسة الواقع بحرارة، إضافة إلى أعمال رصدت مدى تمسك السوري بأرضه وتجذره فيها مُعبّرة عن الهوية والانتماء للوطن، وأظهرت مقدار الشجاعة والتضحية والروح الوطنية العالية للشعب وللجيش العربي السوري راصدة حكايات عن بسالة الجندي السوري وما سطره من ملاحم انتصارات سجلها التاريخ وباتت تشكّل دروساً للأجيال تجمع بين البطولة والتضحية والكرامة والعزة والشموخ والكثير من الصفات التي تعكس عقيدته وإيمانه بوطن يذود عنه بدمه سعيه الشهادة المكللة بالغار ليكون قرباناً يُقدم على مذبح الاستقلال والكرامة والسيادة الوطنية، هذه الصورة النبيلة دأبت الدراما على تناولها ضمن أعمال فنية حاكت معاني خالدة مُتجددة حاملة قيماً وطنية راسخة، ومن أحدث تلك الأعمال مسلسل (لأنها بلادي) إخراج نجدة أنزور وتأليف محمود عبد الكريم وإنتاج وزارة الإعلام – المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي، الذي جاء مفعماً بالروح الوطنية متناولاً حكايات إنسانية ظهر فيها المزج ما بين الخط السياسي والعسكري والإنساني مقدماً حقائق يجهلها كثيرون أو لا يعرفونها بهذه الدقة خاصة أنها طُرِحت بلغة عسكرية تُقدم حالة توثيقية في جوهرها.
تبقى الإشارة إلى أنه على الرغم من كل ما قدمته الدراما كفعل إبداعي يؤثر ويتأثر لايزال هناك الكثير للقيام به، فهي حالة منوطة بالكثير مما تتطلبه الدراما من إنتاج نظيف يحمل هماً وهاجساً إبداعياً لتقديم الأنبل والأرقى الذي يحمل عمقاً حقيقياً، والمفارقة أن الإبداع نفسه الذي يستطيع أن يلعب دوراً إيجابياً في حركة تطور المجتمعات يمكنه في مكان آخر أن يلعب دوراً سلبياً إن وظّف بطريقة مغايرة، كحال بعض الأعمال التي أساءت إلى المرأة منتهجة خط الإثارة المجانية، وحال ما درجت عليه مستنسخات مسلسلات البيئة الشامية التي عمم العديد منها مجموعة من المفاهيم والعبارات والمصطلحات المتخلفة خاصة فيما يتعلق بمكانة المرأة.
التاريخ: الثلاثاء18-1-2022
رقم العدد :1079