الثورة – أديب مخزوم:
أفتتح في غاليري كامل بدمشق، معرض الفنان التشكيلي غسان النعنع، متضمناً 12 لوحة بقياسات كبيرة ، من ضمنها 3 لوحات عرضت بشكل ثلاثية ، وهي تشكل امتداداً لأعماله السابقة، التي قدمها خلال مسيرته الفنية الطويلة، لإظهار كثافة الملمحين الواقعي والرومانسي . وهو بالرغم من ارتباطه الوثيق بتداعيات اللمسة اللونية العفوية، فإنه يستعيد في بعض لوحاته الأجواء الأسطورية والروحانية، بصياغة عقلانية منظمة، ويريد دائماً تقديم لوحة تعبيرية حديثة بروح الماضي، وبنفحة شاعرية رومانسية متصاعدة، من طريقة معالجته للعناصر الإنسانية (قشط طبقات اللون وإظهار سطح القماش والتركيز لإبراز الإضاءة المتدفقة في أماكن متفرقة من اللوحة).
ولقد أظهر في أعماله السابقة والجديدة، قدرته التقنية اللافتة في هذا المجال ، على تجسيد الأشكال والعناصر بحساسية خطية ولونية وضوئية ، ضمن نسيج بصري شاعري خاص به، وفي لوحاته الأحدث أكد رغبته المطلقة، في تطوير هذا المناخ التشكيلي، الذي يحمل ثمرة وخلاصة تجربته على مدى سنوات، من البحث والاختبار على الصعيدين التكويني والتلويني، ورغم أستفادته المطلقة من قدرته على التحكم بحركة الشخوص، وإظهار عناصر التناسب والإتقان والتشريح الأكاديمي، فهو في النهاية يقدم لوحة حديثة ومعاصرة وخاصة، ويظهر تطور تجربته وارتباطها بالماضي والحاضر، في احتمالاتها التشكيلية الرمزية والدلالية والذاتية.
مع جنوح واضح نحو جمالية المزج ما بين الإيقاعات النورانية والعناصر الإنسانية ، وبالأخص المرأة، التي يجعلها أكثر جاذبية وأناقة وجمالية، وهي تعطي اللوحة شاعرية أو رومانسية مرهفة شديدة الحساسية والرقة، تؤكد قدرته على التحكم بليونة خطوط الرسم، رغم تلاشيها في مناخات الألوان والأضواء الضبابية ( فالخط واللون هنا واحد).
وهذا يعني أن هناك خطا عاما تتمحور فيه تجربته، رغم كل التعديل والتطوير الذي يبرز في لوحاته بأحجامها الجدارية، هذا الخط يمكن ملاحظته، في عودته في كل مرة، إلى ذاكرة شرقية روحانية ناتجة عن الإضاءات المتدفقة في فضاء اللوحة، وهو في ذلك يستطرد إلى إشارات ميثولوجية حكائية تبرز بشكل واضح (في ثلاثيته البانورامية التي تتصدر صالة العرض).
وتشكل المرأة أو الجماعة الإنسانية محوراً أساسياً لموضوعات غسان النعنع، وهو يجعلها تعطي كل ما تملكه من حالات تعبيرية ودلالية وجمالية، وبقدر ما يركز لإبراز جمال المرأة ورشاقتها ورقتها وأنوثتها، بقدر مايؤكد حضورها الروحي وقدسيتها في عالم منفلت من العالم المادي، الى عالم الروح والماورائيات، وحين يقوم في أحيان كثيرة بتغييب تفاصيل وجهها وجسدها في الضباب النوراني الذي يحمل قدراً من العفوية، فإنه يخدم هذا الاتجاه ، التعبيري الذي أراده منطلقا في بحثه التشكيلي والتقني .
هكذا تتحول مشاهده النسائية في أحيان كثيرة، إلى بناء شاعري ورومانسي، يحول العناصر أحياناً إلى ظلال، غير منفصلة بالتالي عن ذلك الطهر الروحاني، المفتوح على الصمت الأزلي الأبدي القريب من الفن الكنسي أو لغة الأيقونة الحديثة .
وهو في كل الحالات يبحث عن لغة فنية حديثة، فيها الكثير من روحانية الشرق، ليس من خلال روحانية النور المتدفق فقط، وإنما من خلال ملامح الوجوه النسكة الواقعة بين الحزن والفرح ، دون الالتزام بالنمط الواقعي التقليدي، وهذا يدخله مباشرة في البنية التشكيلية والفنية المتجهة، إلى صيغ التناغم اللوني المتقارب للوصول إلى عمق اللوحة الحديثة والمعاصرة، فنلحظ أشكاله الإنسانية تنطلق من الواقع، وتبتعد عنه في وقت واحد ، خاصة حين تظهر ملامحها المبسطة في الخلفيات اللونية الضبابية . بالإضافة إلى بروز التأثيرات البصرية التي تقرب لوحته من أجواء الرسم الجداري القديم ” الفريسك ” كل ذلك يظهر، على درجة عالية من الحساسية والأناقة والعناية التقنية المركزة.
هكذا نجد في أعمال غسان النعنع السابقة والجديدة تقاربا واضحا لجهة العمل بالجهد والصبر والجلد والتأني والحساسية المرهفة، التي تستبعد أي إغراء تزييني ، وهذه الطريقة تحرك سكونية اللوحة، وتمنحها حركة ناتجة عن حركة الأشخاص وحركة النور وشاعريته البصرية، وقد تتأتى هذه الرؤى الشاعرية من إحساسه الدائم بضرورة تحريك المساحة الصافية، بإضافة لمسات عفوية وأجواء خيالية، وخاصة في خلفيات اللوحة، وكل ذلك يساهم في إبراز أجواء التناغم البصري، الذي ينسجم مع السياق الشاعري العام في اللوحة.