الثورة – هفاف ميهوب:
مُذ أقدم العصور، والإنسان هو الغموض الصعب الذي سعى فلاسفة العالم لفهمه ومعرفته، وللبحث في أفعاله وأفكاره وثقافته، فعندما خرج الفيلسوف اليوناني “ديوجين” ذات صباحٍ إلى الشّارع، وكان يحمل مصباحاً ويبحث عن شيءٍ ما، سُئل عن هذا الشيء، فكان أن أجاب: أبحث عن الإنسان…
لكن، ياترى من هو الإنسان الذي بحث عنه الفلاسفة؟!!.. حتماً الإنسان العاقل، الذي يصنع القيم والثقافة والأفكار، ويؤسّس حضارته.. الذي يندهش فيبحث ويبتكر، ويفكّر بحكمةٍ في حقيقته.
إنه لدى “أفلاطون”: “كائن يبحث عن المعنى، وروحه هي مصدر كلّ ما يشعر به من انفعالات”، ولدى “أرسطو” إنسان “يرغب في المعرفة”..
هو أيضاً، وكما رآه الفيلسوف الألماني “كانط”، إنسان قادرٌ على المعرفة والتصرف، اعتماداً على العقل لا الأشخاص، وبالتالي “يعطي أسباباً لأفعاله”، وقد اعتبره “سارتر”: “إنسان يرى ذاته من خلال الآخر.. الوسيط الذي يجعل من ذواتنا موضوعاً للوعي”.
اليوم، وفي عصر الحداثة هذا، تراجعت الفلسفة في بحثها عن الإنسان، وبدأنا نشعر بأنه بات ضحيّة لعالم الميديا الذي يتحكم في وجوده وأفعاله، ويجعل منه كائناً يعاني من الضياع والتشتّت، أو تدني قيمته بفعل الاستلاب والاستهلاك، وبأن هناك من يراهن على نهايته وموته.. تماماً كما راهنت البنيوية، وفلسفة “ميشيل فوكو” الذي آمن بأن “الإنسان اختراع حديث العهد، صورة لا يتجاوز عمرها مئتيّ سنة، ومجرّد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتّخذ المعرفة شكلاً آخر جديداً”..
آمن بذلك، فدعا إلى “موت الإنسان” معتبراً أن “النّزعة الإنسانيّة، هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التّاسع عشر، وقد حان الأوان للتّخلص منه”..
نعم، هذا ما آل إليه حال الإنسان، بعد المكانة العظيمة التي وهبه إياها فلاسفة النّزعة الإنسانيّة، ممّن اتّخذوه محور تفكيرهم وغايتهم وقيمتهم.. الإنسانويون، الذين وجدوه يمتلك القدرة والإبداع والوعيّ، وبالتّالي فهو مسؤول عن أفعاله وعن وجوده وقيمته وحضارته…
يحقّ لنا أن نسأل هنا: ألا تعني نهاية الإنسان هذه، نهاية للفلسفة والفلاسفة، ممن عجزوا عن فهم هذا الكائن الصعب، بل وعن جعله يحيا بحكمتهم المزعومة؟!!.. ألا تعني بأن رأي كلّ منهم بالإنسان، دليل على عجزه عن فهمه ومعرفته، وبأن تناقضه مع من يختلف معه في الرأي أو يعارضه، يجعله يستحقّ بحقّ، ضربات مطرقة كالتي هوى بها “نيتشه” على أصنام عقولهم، وعلى وقع صرخته:
هل تكلّمتم مرّة عن معنى الرأفة والفضيلة والعدالة والعقل؟!.. هل صرختم مرّة هكذا؟”..