عبد الحليم سعود:
تحيي جماهير شعبنا الأبية في هذه الأيام المباركة من شهر رمضان يوم الجلاء الأغر الذي شهد جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن بعد أن قدم أجدادنا الميامين في مواجهة جيوشه الجرارة وأسلحته المتطورة آلاف الشهداء والتضحيات الغالية.
ففي عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كتب أبناء سورية الشجعان ملحمة خالدة في النضال والكفاح والاستبسال حين أجبروا بصمودهم ومقاومتهم الأسطورية فرنسا الدولة الاستعمارية المتغطرسة على حزم أمتعتها والرحيل دون قيد أو شرط، ساحبة خلفها عار الاحتلال وذلّ العجز عن إخضاع شعب لم يعرف في تاريخه الخضوع لمحتل، شعب تمرّس على الكرامة وتربى على الوطنية والشجاعة، وسطّر عبر تاريخه الطويل ملاحم خالدة في مجابهة الأعداء والطامعين من أجل صون وحماية أرضه واستقلاله.
لقد صنع أجدادنا الميامين بتضحياتهم المباركة حدثا تاريخيا نستمد منه روح الصمود والعزيمة لصنع المزيد من الملاحم والانتصارات التي تحصن الوطن وترفع علمه واسمه وتحمي حدوده من كل غازٍ وطامع.
لم يكن طريق الاستقلال وإجلاء المستعمر عن أرض الوطن معبداً بالأحلام والورود، بل كان وعراً وشاقاً تخلله الكثير من الصعوبات والمشاق، ويسجل للسوريين أنهم كانوا الأسرع بين أشقائهم في طرد الغزاة والحصول على استقلالهم الكامل والناجز، فمنذ وطأ الفرنسيون الغزاة أرض سورية بين عامي 1918 و1920 بحجة الانتداب، هبّ أبناؤها الشرفاء في كل المناطق بشكل عفوي لمقاومتهم، فأشعلوا الأرض من تحت أقدامهم، من الساحل وجباله العصية إلى دمشق وغوطتيها، ومن جبل العرب الأشم وسهل حوران حتى سهول حلب الشهباء، ومن جبل الزاوية الصامد حتى دير الزور عروس الفرات الأبية وأرض الجزيرة الخيرة.
وقد سجلت أولى وأعظم الملاحم المشرفة على طريق الاستقلال في موقع ميسلون غرب دمشق عندما واجه البطل يوسف العظمة ورفاقه الشجعان جحافل غورو المدججة بأحدث أنواع السلاح من طائرات ودبابات ومدافع، في معركة غير متكافئة، لتكون أول رسائل السوريين لفرنسا المستعمرة أن أرضنا ستكون مقبرة الغزاة ومشاريعهم العدوانية.
لتتواصل الثورات في كل المناطق، وتتوحّد سورية بجميع أبنائها خلف قيادة المجاهد سلطان باشا الأطرش، كما حمل راية النضال ضد المستعمر إلى جانبه رجال عظام كالشيخ صالح العلي والمناضل إبراهيم هنانو ومحمد الأشمر وحسن الخراط وأحمد مريود وغيرهم، فقادوا معركة الاستقلال المريرة على مدى ٢٦ عاما وكان لهم ما أرادوا، حيث خرج الغزاة مهزومين مدحورين وتحقق الاستقلال، لتكرّ سبحة الهزائم الفرنسية والبريطانية من لبنان والعراق إلى تونس والمغرب ومن مصر إلى الجزائر، حيث كان لاستقلال سورية آنذاك وقع مؤثر في قلوب العرب لما تمثله في الوجدان القومي.
وبعد إنجاز الاستقلال المجيد حمل أبناء سورية راية المواجهة مع المشروع الصهيوني البغيض دفاعا عن فلسطين، فخاضوا في سبيلها العديد من المعارك الشرسة وما زالوا مستمرين باحتضان ودعم المقاومة حتى تحرير كل الأراضي العربية المحتلة، ولعلها من المصادفات ذات المدلول العميق أن تمر ذكرى الجلاء هذا العام وقد أنجزت سورية معظم انتصاراتها في محاربة الإرهاب، في الوقت الذي يواجه الشعب الفلسطيني المقاوم قوات الاحتلال الإسرائيلي ويقدم أبناؤه أغلى التضحيات من أجل تحرير أرضه مستلهما بطولات السوريين عبر التاريخ ممن خاضوا خلال السنوات الماضية أشرف وأعتى المعارك دفاعا عن الاستقلال والكرامة وما زالوا يخوضون معركة الحفاظ عليهما رغم كل أشكال الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، والعقوبات التي تمارس ضدهم.
ولعل من دواعي الفخر والاعتزاز والأمل أن سورية بشعبها الأبي الصامد وجيشها البطل وقيادتها الشجاعة قد خيبت آمال المتآمرين، حيث كان الأبناء والأحفاد في الموعد وردوا التحية لرجال الاستقلال بأحسن منها، ووقفوا صامدين في وجه الإرهاب وداعميه وألحقوا به هزائم في كل الساحات، مسطرين بدمائهم وتضحياتهم أروع قصص البطولة والفداء، وضاربين أروع الأمثلة في البذل والعطاء، ومقدمين القدوة الحسنة في التضحية وحب الوطن لكل الأجيال القادمة.