الثورة-أديب مخزوم:
مصطفى علي الذي عرفناه كنحات اختبر معظم المواد والتقنيات، ودخلت بعض أعماله في متاحف وصالات ومجموعات فنية داخل سورية وخارجها، يعرفنا بمعرضه الجديد، في الصالة التي تحمل اسمه على لوحاته، والتي تبدو أحياناً أقرب إلى الدراسات “اسكيتشات” وقريبة من روح أعماله النحتية، فهو في هذه اللوحات أو الدراسات ( المنجزة بمواد مختلفة) يجسد النحت بالرسم والرسم بالنحت، وهذا يعني أن الروح واحدة بين منحوتاته ولوحاته ورسوماته ودراساته .
وفي معظم هذه اللوحات والدراسات، نجد تجريباً على موضوع واحد هو الإنسان – خصوصاً الوجه، وهو يستعرض الوجه الإنساني مرتكزاً على تعبيرية أسلوب تحديد التجسيد المأساوي، بينما يلعب الخط العفوي (عفوية مطلقة) دوراً أساسياً ومباشراً في إبراز الأشكال الإنسانية المبسطة ، غير أن الخط لايلبث ان يغيب عن لوحات الوجوه ” البورتريهات ” بحيث يتحول الوجه في النهاية إلى حالة من التعبير الذاتي الانفعالي المجسد باللمسات المباشرة والعفوية والتلقائية .
والتي تنحاز أكثر فأكثر نحو إبراز ملامح الوجوه المعذبة والحزينة، بحيث تبدو كأنها قادمة من الأمكنة المدمرة بزلازل الحروب الراهنة، فالوجه الإنساني الذي يقدمه في هذا المعرض، أدى إلى الإيهام بأنه ليس ببعيد عن الإنسان البائس الموجود في عالم اليوم اللاإنساني .
وفي هذا النطاق يمكن اعتبار الوجه أحد رؤى مخيلته، ولقد وصل من خلاله إلى نوع من الصياغة العفوية الباحثة عن معادلة جديدة تدمج بين عدة حالات وتعابير وجدانية.
هكذا يتجه إلى تقديم لوحات حديثة صاغها بألوان تلقائية حرة وطليقة تحافظ على الشكل البدائي للوجه، وتستعيد الخطوط العريضة لتحولات لغة الرسم واللون في القرن الماضي والحالي، رغم أن هذه الوجوه هي أقرب إلى ” السكيتشات ” التي اختارها عنواناً للمعرض .
وهي تخفف من التمادي في تأمل الإيقاعات التي تراها العين في الخارج، وتقتصر على تفعيل التعبير والقول الانفعالي المباشر، من خلال العلاقات الخاصة التي تبرزها الحركات، واللمسات العفوية. وهذا يعني أن القيمة الفنية التي تحملها متناهية الحداثة، حتى فيها بدائية وفطرية ( على أساس أن البدائية هي الأكثر حداثة ) .
ولقد وصل في بعضها أو أكثرها إلى ايقاعية لونية خافتة ومتفاعلة مع حالات البؤس والمرارة والتعابير الأخرى المتنوعة والمختلفة .
وإذا كنا نستطيع أن نلمس أثراً لاندفاعاته العاطفية والانفعالية في أماكن كثيرة من اللوحة عبر اللمسات العفوية والتلقائية، فهذا لا يمنعنا من متابعة معالجات تقنية وخطية تنسج المساحة وتجعلها أقدر على التعبير العقلاني، على الأقل، من خلال اختيار إيقاعات لونية متقاربة في اللوحة الواحدة.
هكذا عمقت تأثيرات بحوثه المتواصلة هذا التحول، من أسلوب النحت والعمل في الأبعاد الثلاثة ، إلى اختبارات النزعة التعبيرية المبسطة على مسطح اللوحة، وكشفت بالتالي عن حبه المتجدد للبحث الاختباري الذي يدخله أكثر فأكثر في أسرار الصياغات والتقنيات الفنية المعاصرة والحديثة، لكشف أبعادها ومضامينها والإنطلاق في مجالات الخلق الفني المتحرر.
ومصطفى علي كان ولا يزال يضع وينشر على صفحته عشرات الدراسات التحضيرية ، التي تسبق إنجاز منحوتاته، ولهذا يمكن تشبيهه بالعالم، حيث يقوم بتجارب في محترفه يوماً بعد آخر للوصول إلى إيقاعات بصرية وجمالية جديدة في مجال تشكيل أعماله الفنية برؤى فنية شديدة العفوية والتلقائية والصدق .
وهو في هذا المعرض يتعاطف مع هواجسه التلقائية التي تعمل على زيادة الإحساس بجمالية اللمسة اللونية العفوية وبالضربات الآتية من طريقة وضع مساحيق المواد المختلفة، وهذه الطريقة تجعله في أحيان كثيرة يرسم ببعدين، أي أنه يعمل على تغييب المنظور والعمق.
وهو يشد لوحته دائماً، نحو الداخل لالتقاط الحالات الوجدانية وتحولاتها الداخلية، ولهذا يبقى التكوين التشكيلي، رغم تعدد حساسياته ودرجاته وتقنياته، مرتبطاً بمستويات جوهرية هي الأساس في صياغة أي عمل فني، بل إننا نشعر بأننا أمام حركة داخلية تصوغ الأبعاد والتداخلات التعبيرية ، فيتحول التعبير إلى صيغة حوارية بين الوضوح والغياب الجزئي الذي يكتفي بالإشارات القليلة أو المبسطة لملامح الوجه وتعابير العيون .
كما يجعلها مسكونة بالهواجس الروحانية وبدلالات التأمل الصوفي. وهكذا تتحول الوجوه إلى سكونية ورمزية خاشعة هي أقرب إلى الأيقونات الحديثة في إيقاعاتها المتحررة.
حتى أنه أدهش المتابعين بهذا المعرض غير المتوقع لفنان أمضى أكثر من نصف قرن في عرض منحوتاته، لا لوحاته ودراساته .
وأظهر تنويعات تعابير الوجوه المختلفة لجهة القدرة على السيطرة على الملامح ، حيث تتغير تعابيرها حسب الحالة الداخلية، وحسب انعكاسات الواقع الخارجي، الذي لابد أن يترك أثره على حركات اللون وتوترات اللمسة وتفاوتها بين الهدوء والعنف، وبذلك يصبح الوجه حالة زئبقية لانفعالات وتبدلات الحالة الداخلية، وتبدو اللوحات مثيرة
للتساؤلات لأنها الارتجال الذي يجسده في حالات التلوين والتكوين، الذي يتفاوت بين الوضوح والغياب.
وهو في النهاية يرسم بتقديس لعفويته وتقنيته ومناخه اللوني والتعبيري الخاص، البعيد كل البعد عن كل إغراء بصري سطحي أو أستعراضي، أو تقريري أو مباشر .