في مرحلة اليفاعة غالباً ما نقوم بقراءة (كلاسيكيات) الأدب الذي صُنف على أنه من الروائع التي لا تبهت سطورها مع الزمن بل على العكس من ذلك إذ أنها تتفتح مع الزمن عن مضامين كانت مخبوءة بين ظلال الكلمات.. لتكون هذه القراءات فيما بعد هي اللبنة الأولى التي تشكل ثقافة المرء، إلا أن استيعاب ما تنطوي عليه صفحات هذا الأدب في أعمار مبكرة من مرحلة الشباب قد لا يكون كاملاً، فالقارئ الشاب وهو لم يبلغ بعد مرحلة النضج الفكري الذي يمكنه من الفهم الكامل للسطور وما بينها سوف تغيب عنه بعض المضامين المرمزة، والأخرى الأكثر عمقاً.. وهذا ما يدفع بالتالي بقوة إلى فكرة إعادة القراءة لمرة ثانية، وربما ثالثة، وأكثر بعد سنوات ليعيد بالتالي القارئ الذي غادر يفاعته اكتشاف النص الأدبي من جديد، فإذا به يعثر على معانٍ ومقولاتٍ لم تكشف نفسها له من قبل، وكما لو أنه نبع ثرّ للفكر يتدفق أمام قارئه على الدوام، وصخور الزمن لا تملك أن توقفه.. وكأن المرء في هذه المرحلة يعيد اكتشاف ذاته من خلال تلك الروائع الأدبية.. فالأمر إذن يتعدى المتعة إلى الفائدة.
ألا يتقن الكاتب مفرداته في تأثيره على قارئه؟ بالطبع أجل.. فما بالنا بروائع الأدب التي تملك سحرها في التأثير، وقدرتها على الانغراس في الذاكرة العميقة لتنعكس ممارسات سلوكية فيما بعد.
إنه الابتكار بكل معانيه إذ يتجلى في تصنيف أمهات الكتب وروائعها.. ولولا أن (ه.ج.ويلز) لم يبتكر فكرة السفر عبر الزمن في روايته (آلة الزمن) من الخيال العلمي لما تواترت هذه الفكرة، وتدفقت سيرتها في كثير من الأعمال الدرامية، والسينمائية، والأدبية التي تعرفنا إليها مستلهِمة فكرة الزمن والسفر عبره من مبتكرها الأول، وكلٌ يضيف إليها قطرة من الابتكار أيضاً.
هذا يعيدنا بدوره إلى أهمية الأعمال الكلاسيكية في تشكيل الوعي، والمعرفة، وإغناء التجربة الحياتية، والإجابة على كثير من الأسئلة الوجودية، والفلسفية التي يصطدم بجدارها كل أحد في وقت ما من حياته.. ولو أن تلك الأعمال الفكرية والأدبية هي وليدة أزمانها بما تنطوي عليه من تطور علمي، وأوضاع اجتماعية، وأخرى ثقافية، وسياسية لكنها تظل تعكس فكراً يرافق البشرية على مدى مسيرتها.. وما بالنا أيضاً بالأعمال التنبؤية التي جاءت من عمق (الكلاسيكية) لتنبئنا بما هو من واقعنا الآن.. والأمثلة على ذلك كثيرة في الأدب لا مجال لذكرها هنا.
إن الفكر الإنساني هو كلٌ واحد لا ينفصل جزء منه عن الآخر، بل إنه يتراكم لينمو، ويتطور، ويتعمق في فهمه للحقائق الكبرى في الحياة بكل ما فيها ليصبح فيما بعد أفقاً واسعاً، أو هرماً يصعد في معرفته مستدقاً في ارتقائه نحو السماء.. وما مسار الفكر إلا كمسار تطور الإنسان من مهد الطفولة إلى سن النضج إذ لا يمكن فصل مسار منه عن آخر.. والخيال الذي يأتي بالإبداع يظل السبب الأول للتطور، والحضارة.. والفكر بمساراته الأدبية، والفلسفية، والعلمية لا ينفصل عن نقطة البداية.
ولكن وسط ضوضاء ما ينشر على شبكة المعلومات، وما تستنزفه تلك المنشورات من أوقات لقراءتها، وما يطبع أيضاً من مؤلفات معاصرة تتزايد أعدادها يوماً إثر يوم، ودون أن ينافس أغلبها ما سبق تصنيفه على أنه من روائع ما كُتب، ومع ما يبذل من جهد ووقت لتحصيل الأموال من مواقع الأفلام القصيرة وغيرها، فلم يعد أغلبنا يجد لديه وقتاً ليعيد قراءة ما سبق قراءته من أمهات الكتب قديمها، وحديثها، ومما أنتجه الشرق، والغرب معاً.
وإذا كانت الأجيال الجديدة لا تعنى كسابقاتها بمثل هذه القراءات، لاسيما مع عوامل الإلهاء الكثيرة التي يتيحها عصر الرقمية، فإن عليها أن تعيد التفكير فيما تفعل حتى لا تحرم نفسها مما يثري الخيال، ويفتح طرقاً رحبةً نحو الإبداع، والابتكار.