حنظلة.. شاهد لايغيب

الملحق الثقافي – فاتن أحمد دعبول:
كثيرة هي الشخصيات سواء منها الفنية أو الأدبية، استطاعت أن تنتصر على مبدعها، وتدخله في أجندة الخلود والديمومة، فغالباً ما يتم تداول أحداث أو شخصية معينة، أو الاستماع إلى معزوفة تروق لنا، دون أن نبذل أدنى العناء لمعرفة من هو صاحبها.
وربما شخصية» حنظلة» التي ابتكرها فنان الكاريكاتور ناجي العلي ينطبق عليها القاعدة نفسها، فهي تملك من القوة والحضور ما جعلها حاضرة في أذهان الناس رغم مرور السنوات الطويلة، ورغم استشهاد مبدعها.
بوصلته إلى فلسطين
« وحنظلة» الطفل الذي يبلغ من العمر 10 سنوات، وهو عمر ناجي العلي عند مغادرته فلسطين، يقف الزمن عنده، لا يكبر، وكأنه عقد اتفاقاً ضمنياً مع نفسه بأن لا يدع للزمن فرصة للمرور إلا بعد عودته إلى موطنه الأصلي فلسطين، ولكن هذا الوقوف لم يمنعه من إنضاج أفكاره وتطورها ومواكبتها للأحداث التي تتعاقب على بلادة من جهة، وعلى الوطن العربي من جانب آخر، فكان ظهوره الأول في العام 1969 بجريدة السياسة الكويتية، وأدار ظهره للعالم مكتفا يديه خلف ظهره رفضاً للسياسات الأميركية في تسويتها القضية الفلسطينية.
وقد وصف ناجي العلي شخصية» حنظلة» في أحد لقاءاته بالقول:» إن شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونة حفظت روحي من السقوط، كلما شعرت بشيء من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي، أشعر بأن هذا الطفل كنقطة ماء على جبيني يصحيني ويدفعني إلى الحرص، ويحرسني من الخطأ، إنه كالبوصلة لي، وهذه البوصلة تشير دائماً إلى فلسطين ..».
نصير المستضعفين
وعمل ناجي العلي على تطوير الفكرة والأداء، يقرأ الأحداث بعين المتبصر الواعي المنتمي لقضيته، ومن ثم يقدم آراءه عبر فن الكاريكاتور الذي أتقنه، ففي الوقت الذي تنبأ فيه بانتفاضة الحجارة وبناء جدار الفصل في فلسطين، كان يقف ضد أي عمل عدواني ضد بلاده، وكان يبتكر رسومات تعبر عما يدور من أحداث بعمق وثقافة عالية وتأثير منقطع النظير، ما أدى إلى تعرضه لأكثر من محاولة اغتيال، إلى أن قضى برصاص العدو الغادر.
كان يؤمن بأن العنف لا يوقفه إلا العنف، فحرض على مقاومة الاحتلال، وانحاز إلى المستضعفين، وقال» أنا لا أتملق أحداً، الفقراء هم الذين يموتون وهم الذين يعانون معاناة المناضل الحقيقي، دائم العطاء» فكان ذاك المثقف الواعي الذي يعبرعن تطلعات مجتمعه ويصوبهم في الآن نفسه.
لقد كرس ناجي العلي حياته من أجل فلسطين، وكان صادقا مع قضيته، وكان يعتقد أن له الحق في العودة إلى وطنه، رغم أنه كان يتلقى التهديدات بالقتل طوال حياته، وقد عمل من أجل فلسطين وفي سبيلها متمسكا بشعار» ما أخذ بالقوة، لا يمكن استعادته إلا بالقوة.
وبعد 53 عاماً على استشهاده، يقف حنظلة في آخر المشهد وحيدا كما بدأ، رغم كثرة المزيفين حوله، ولسان حاله يقول: مازالوا في الخلف يا ناجي، مازالوا في الخلف.
نهج فني متميز
استطاع الفنان ناجي العلي أن يملأ الدنيا ويشغل الناس والنقاد بفنه الذي لا يزال حاضراً رغم مرور سنوات على استشهاده، ولا شك أن الفن الخالد يتمتع بسمات تجعله مرجعاً للفنانين والدارسين.
يقول الناقد التشكيلي سعد القاسم:
أكثر ما يميز ناجي العلي كرسام كاريكاتير، غزارة إنتاجه، وقد قدرت جريدة» القبس» ما نشر له خلال حياته الفنية بأكثر من أربعين ألف رسم، عدا ما حظر نشره.
ترى هل كان يشعر في أعماقه أنه لن يعيش طويلا، وأن رصاصة حمقاء جبانة ستوقف نبع العطاء فيه، فانطلق يرسم بكلّ طاقته مستغلاً الزمن القليل المتاح له، أم أنه أراد من وراء غزارة انتاجه أن يوصل رأيه إلى أوسع قطاع ممكن من الناس، لاسيما وأننا لاحظنا أن كثيراً ما كرر الفكرة ذاتها بأشكال وأساليب عدة، حتى تكون مفهومة من الجميع؟
مهما كان السبب فإن هذه الغزارة لم تكن السبب الأساسي في سعة انتشاره الجماهيري، وإنما يكمن ذلك في نهجه الفني الذي طوره بسرعة حتى يصبح قادراً على الوصول إلى الناس، فرموزه غاية في البساطة» الهلال، الصليب، البندقية، ريشة الكاتب أو الرسامة، غصن الزيتون، حمامة السلام، الدبابة، البلطة، كاتم الصوت إلخ ..
وكذلك أشخاصه الذين يمثلون بدورهم رموزاً بشرية، منها: فاطمة، المرأة البسيطة الواعية التي تمثل الزوجة والأم والوطن، وهناك الإنسان المكافح المقهور والفدائي، ومقابلهم، العدو الصهيوني وأعوانه، والمستغلون» بكسر الغين»، ثم المرتزقة من الثورة والمتاجرون بها والمتخاذلون.
وقد صورهم دائماً على هيئة رجال مترهلين، يصلون أحياناً إلى أشكال أشبه ما تكون بأشكال الرخويات أو كلاب البحر.
حنظلة الرمز الأشهر عند ناجي العلي، قدّم نفسه للقارىء، في الثالث عشر من تموز عام 1969 بقوله:
« باختصار معيش هوية، ولا ناوي اتجنس .. محسوبك إنسان عربي وبس ..»
ضمير العرب
وقد أراد ناجي العلي من» بيان الولادة» هذا أنه ليس رسام كاريكاتير فلسطيني فحسب، وإنما رسام كاريكاتور عربي بكلّ معنى الكلمة، وليس أدل على ذلك من رسومه التي تناولت الهم العربي، وهموم المواطن العربي أينما كان، وفي أحدها نرى فيه عرباً من بلاد ومدن مختلفة يسمي كلّ واحد منهم اسم بلدته ويحكي عن انتمائه لها ونرى» حنظلة» يدفع بالجميع إلى» المدرسة القومية لمحو الأمية».
سرعان ما صار» حنظلة» صوت ضمير الناس البسطاء الذين استقبلوه بمحبة كانت تكبر يوماً بعد يوم وكشاهد على عصره، فإن حنظلة غالباً ما كان يدير لنا ظهره ليوجه عيوننا وعقولنا حيث يرى، ولندرك ما يدرك، إلا أنه في بعض الأحيان لم يكن يطيق أن يقف شاهداً فحسب، فتراه يشارك بالحديث بقول أو بفعل، كما في رسم يظهر المسيرات العالمية المؤيدة للقضية الفلسطينية، نرى حنظلة يستدير غاضباً وهو يصيح: شوفوا العجم يا بجم.
لا نستطيع اليوم أن نحكم حكماً صحيحاً على كثير من أعمال ناجي العلي، إن لم نضعها في إطارها الزمني الذي رسمت فيه، فناجي كان رسام كاريكاتور صحفي بالمعنى الدقيق للكلمة، رسام صحفي له رؤيته الخاصة للأحداث، وموقفه الصريح منها، وعلى هذا فإن الحديث عن خليفة أو خلفاء لناجي العلي هو حديث يجافي الحقيقة، لأن ذلك يتطلب المطابقة الكاملة بين شخصية السلف وشخصية الخلف، وهو شيء لا يمكن تحققه.
خصوصيته وشخصيته
كان ناجي العلي كفنان يمتلك موقفاً واضحاً حراً هي ما أعطته تلك الأهمية التي لم يبلغها فنان عربي سواه، وهي ما دفعت بكثيرين بعد ذلك لتقليد أسلوبه، أو تقديم أنفسهم كخلفاء له، لكن بعضهم في واقع الأمر استعار أسلوب ناجي ليقدم أفكاراً مغايرة لما آمن به الفنان الشهيد ودفع حياته من أجله.
وشخصية ناجي العلي الفنية والفكرية تتحدد بأبعاد ثلاثة:
بعد وطني: يتمثل في التزامه بوطنه فلسطين وبقضيتها، وأيضاً إخلاصه لوطن اللجوء لبنان، وهو الإخلاص الذي تجلى واضحاً خلال الحرب الأهلية الطويلة في لبنان، حيث وقف الفنان الشهيد إلى جانب المستضعفين في وجه الظلم والقهر وفي وجه الطائفية، والذي تجلى ثانية أثناء حصار بيروت، ثم رحيل المقاومة.
وبعد قومي: يؤمن أن فلسطين هي جزء من الأمة وقضيتها قضية هذه الأمة وهو ما عبر عنه حين قال:» أنا كنت مبشراً بالثورة، وما أزال ولكن منذ بداية الثورة كان لي موقف من خط سيرها، كنت أرى أنها يجب أن تكون قومية وليست فلسطينية» وفي إطار هذا البعد القومي تناولت رسومه عدداً كبيراً من المواضيع التي تتعلق ببلدان عربية وبهموم أبنائها.
وبعد إنساني: تجلى في رسومه عن قضايا الإنسان أينما كان، وعن قضايا الشعوب ونضالها الوطني.
لقد استشهد ناجي العلي بعيداً عن وطنه، وحيل حتى بينه وبين تحقيق رغبته الأخيرة بأن يدفن قرب تراب وطنه، لكن ناجي ترك بيننا حنظلة فهو كما يقول» شاهد العصر الذي لا يموت ..» الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً، إنه الشاهد الأسطورة، وهذه الشخصية غير قابلة للموت، ولدت لتحيا وتحدث لتستمر» حنظلة ليس نبوءة الفنان الشهيد، وإنما وصيته الأخيرة لنا».
العدد 1098 – التاريخ: 7 – 6 – 2022

آخر الأخبار
توزيع سلل صحية في ريف جبلة مرسوم بمنح الموفد سنة من أجل استكمال إجراءات تعيينه إذا حصل على المؤهل العلمي مرسوم يقضي بالسماح لطلاب المرحلة الجامعية الأولى والدراسات العليا المنقطعين بسبب الثورة بالتقدم بطلب... مرسوم بمنح الطالب المستنفد فرص الرسوب في الجامعات والمعاهد عاماً دراسياً استثنائياً مرسومان بتعيين السيدين.. عبود رئيساً لجامعة إدلب وقلب اللوز رئيساً لجامعة حماة   انفجارات في سماء الجنوب السوري منذ قليل إثر اعتراض صواريخ إيرانية أوقاف حلب.. حملة لتوثيق العقارات الوقفية وحمايتها من المخالفات والتعديات تفعيل النشاط المصرفي في حسياء الصناعية تحديد مسارات تطوير التعليم في سوريا تعاون  بين التربية و الخارجية لدعم التعليم خطط لتطوير التعليم الخاص ضمن استراتيجية "التربية"   تجارة درعا.. تعاون إنساني وصحي وتنموي مع "اينيرسيز" و"أوسم" الخيرية بدء توثيق بيانات المركبات بطرطوس الهجمات تتصاعد لليوم الرابع.. والخسائر تتزايد في إيران وإسرائيل صالح لـ (الثورة): أولى تحدّيات المرحلة الانتقالية تحقيق الاستقرار والسلم الأهل مشاركون في مؤتمر "الطاقات المتجددة" لـ"الثورة ": استخدام الموارد بشكل أكثر كفاءة ودعم البحث العلمي قتلَ وعذبَ معتقلين في مشفى المزة العسكري.. ألمانيا تحكم بالمؤبد على أحد مجرمي النظام المخلوع  "تجارة إسطنبول": نجري في سوريا دراسة ميدانية لفرص الاستثمار "الفيتو الأميركي".. هل حال دون اغتيال خامنئي؟.. نتنياهو يعلّق الفساد المدمِّر.. سرقة الكهرباء نموذجاً عطري: العدادات الذكية ليست حلماً بعيداً بل هي حل واقعي