الثورة- أديب مخزوم:
تكشف مجموعة البورتريهات التي ينجزها الفنان طلال علم دار، في الهواء الطلق، وأمام المارة، بجانب السور الخارجي لقلعة دمشق، عن إمكانياته اللافتة في رسم الوجوه ” البورتريه ” والسيطرة على مفردات التكوين الواقعي، وتحسس إيقاعات الإتقان والتناسب والتوازن والتناسق، في خطوات تجسيد موديلات حية جالسة أمامه ، حيث يرسم الأشخاص بسهولة وبخطوط سريعة وحساسة وعفوية ، لدرجة أن الناس، تتجمع حوله، وتلتقط له الصور، وتراقب بمزيد من الدهشة والإعجاب ،خطوات إنجاز بورتريهاته ، التي يرسمها بمواجهة الموديل الحي في الهواء الطلق.
ولوحاته بالتالي تمنح الموديل تجلياته المتجددة وزمنه المعاصر ، ففن البورتريه لا يتجدد، إلا عبر الممارسة المستمرة ،ومن خلال البحث عن صياغات جديدة، متجهة دائماً نحو إضفاء العفوية ، والمزيد من الحرية والابتكار والرؤى الأسلوبية الخاصة، التي يروي من خلالها حكاياته مع موديلات حية جالسة أمامه ، وهو يمتلك قدرة لافتة على اختيار الزاوية المناسبة للجلسة ، في لوحات الوجوه، المفتوحة على التلقائية والعفوية والحرية التعبيرية .
ويزداد هذا الشعور إذا شاهدنا بعض النماذج التي رسمها لأشخاص في الهواء الطلق، والتي تؤكد أن بورتريهاته، ليست تجارية، وإنما هي فنية بامتياز، كونها تميل أكثر فأكثر، نحو العفوية في وضع لمسات الفحم أو الرصاص ، الى جانب لوحاته التي رسمها بتقنيات اللون المختلفة، والتي تجنح نحو الأمانة لدرجة الشبه بين الرسم والحقيقة، والإدراك هنا مباشر، ينبع من الداخل بعفوية وجرأة ،تتميز بالبحث عن فضاء جمالي يوازن في إيقاعاته، ما بين معطيات الصياغة الواقعية الحديثة والمعاصرة .
فهو يمتلك القدرة على محاكاة سمات الأصل، بوضوح وعفوية وانسجام ، دون أن يقع في فخ التأثيرات التسجيلية السهلة ، وهو يعبر في النهاية عن أبجدية أو أسلوب أو طريقة خاصة ، تستمد قوتها من مقدرته على رسم الوجه الواحد ، بعفوية مستمدة من المدى العاطفي للمسة اللونية ، التي تعتمد في أحيان كثيرة ، الحركة السريعة والهادئة في آن ( فالوجه على سبيل المثال غالباً ما نجده منفذا بعفوية، لا تمنعه من إبراز التوازن العقلاني المدروس والموزون) .
ورسم البورتريه شكل بالنسبة للفنان طلال علم دار،الدافع الأول لإيجاد الركائز الفنية ، القائمة على أسلوبية فنية متحررة، لها علاقة متينة مع المناخ الذاتي. حيث استطاع خلال سنوات تجربته الطويلة من الرسم المباشر أمام الجمهور،كشف أسرار ووسائل الرسم بعفوية ملطفة، وبالتالي وصل من خلاله ،إلى مواصفات العمل الفني المميز بحيويته وحركته التعبيرية ، البعيدة كل البعد عن منزلقات الوقوع في هاوية الرسم التجاري والتسجيلي.
هكذا يجسد وجوه السيدات والفتيات والأشخاص بلمسة عفوية ماهرة وواثقة، ويكفي أن نتأمل بعض هذه البورتريهات ،حتى ندرك أنه أنجز رسومات ولوحات على مستوى متقدم وطليعي وحيوي.
ولقد حملت لوحاته التي جسد فيها مواضيع مختلفة وخاصة من دمشق القديمة، نفحات من الإحساس الداخلي والعفوية الصادقة، حيث كان يتفاعل دائما بإحساس ذاتي، مع الموديل والرؤى الأخرى في أعماله التصويرية ، وكان يسير في إطار البحث عن حلول جديدة للتأليف التشكيلي والتقني الحديث والمعاصر .
وهذا يعني أن الفنان طلال علم دار يبدو، حتى في بورتريهاته ، أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعاطفية وحديثة، تعبر بتلقائية عن انفعالات غنائية ، وتصل بالتعبير، إلى حالات جمالية عصرية ، من خلال ذلك الكسر الذي يحدثه ويبعده مسافات، عن التدقيق الذي يوحي بالمرجع الواقعي التسجيلي ، فالمهم بالنسبة إليه أنه يجسد ملامح الوجه وتعابير العيون، بالارتداد إلى الداخل ليخرجه ،من حيز صمته وليجدده أو يستنطقه بالبوح الانفعالي المباشر، ولهذا تتدرج الحركة العاطفية عبر تدرجات الحالة اللونية ، من تلك التي تتجه نحو العفوية ، من خلال اللمسات المتتابعة والسريعة، إلى المساحات والحركات والضربات العقلانية والهادئة ، بحيث تصبح الحركات الخطية واللونية الانفعالية ، مجرد وسيلة لتقديم الأسلوب الشخصي في موضوع البورتريه، والابتعاد به عن الصياغة التسجيلية السهلة، والصورية الواقعية الجاهزة.
