الملحق الثقافي:
أعادت أخبار الأدب المصرية حواراً مطولاً مع توفيق الحكيم أجرته فريدة النقاش ، ومن هذا الحوار المهم جداً نقتطف .
اتذكر حين ذهبت لإجراء الحوار التالى مع توفيق الحكيم في مكتبه في المبنى الجديد بصحيفة الأهرام، حالة الارتباك العظيم التى أصابتنى، حين وجدت في غرفته يوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وثروت أباظة وصلاح طاهر وغيرهم من أعلام الثقافة والفكر في مصر يتناقشون بحماس ويضحكون ويدخنون.
جلست في ركن قصى من الغرفة ، اتفحص وجوههم باندهاش، في انتظار أن ينصرفوا، ويفرغ الحكيم لإجراء الحوار.
وحين حدث ذلك، لاحظ توفيق الحكيم مدى ارتباكى، فقال لي بأبوة وهو يضحك: مالك؟ أنت خايفة؟ متخافيش أنا ماما باعضش.
ومع الضحكات بدأت في إلقاء أسئلتى، وكانت النتيجة هي الحديث التالى الذي يعود تاريخه إلى خمسين عاماً مضت.
ممارسة الحياة نصف قرن، شيء لا يستطيعه إلا نمط خاص من الرجال.وعندما دخلت عليه، كان السؤال الملح، هو كيف استطاع أن يظل كلّ هذا العمر، دون أن يفقد فاعليته في الحياة.. يقرأ ويكتب، ويعيش، ويرى خطا الزمن القادم، كما لو كان زرقاء اليمامة.. يضعف البصر، لكن القدرة على رؤية الغد لا تضعف.
وكان الحوار صريحاً أحياناً.. وقاسياً أحياناً.. وطوال الوقت كنت أتأمل وجهه وأقرأ ملامح الرحلة الطويلة على تجاعيده، الرحلة من شارع عماد الدين وفرقة عكاشة المسرحية، باريس وعودة الروح وعصفور من الشرق، عدو المرأة، والعمر المنهك في الريف، ويوميات نائب في الأرياف.. شارع سلامة.. و «الكلّ في واحد».
ووصلت الرحلة إلى مبنى الأهرام الفخم.. ومن نوافذ مكتبه وقفت أتامل زحام شارع الجلاء وأفكر من أين أبدأ معه.. وظلّ سؤال وحيد يلح. كيف استطاع «توفيق الحكيم» أن يعيش سبعين عاماً طويلة.. دون أن يفقد شبابه أو فاعليته في الحياة. وليس هناك ما يمنع في أن يكون معهد السينما أهم من كلّ المعاهد والكليات الجامعية وغير الجامعية، وأن تكون الدراسة به ستة سنوات بدلاً من خمسة ولماذا لا تكون تسعة مثل معهد الباليه مثلاً؟! ولكن المسألة ليست بإضافة السنوات.
العقل لا يشيخ
فى بداية الحوار سألته عن مفهومه عن الشباب؟.. ضحك، شعر بالمطب، قال :إنه برغم أعوامه السبعين أكثر شباباً مني، واستطرد:
الشباب عندي هو شباب العقل، هو الحركة والنشاط العقلي والتطلع إلى المستقبل فحركة العقل في اتجاه المستقبل هو ما يمكن أن نسميه بالشباب وإذن لا علاقة للشباب بالعمر لأن هناك شباباً تتحرك عقولهم في اتجاه الماضى، وهناك شيوخ تتحرك عقولهم في اتجاه المستقبل ،بناء على ما سبق ما هي اعتراضاتك على توفيق الحكيم الشاب؟
ـ في شبابي كنت شيخاً في التفكير، فعندما احتدمت معركة «السفور والحجاب» بالنسبة للمرأة، كان من الطبيعى لإنسان شاب من حيث العمر في ذلك الزمن أن ينحاز في صف المطالبين بتحرير المرأة وسفورها.
ولكن العجيب أني كنت من الساخرين المتشككين في أمر سفور المرأة وتحررها، وظهر ذلك من مسرحيتى «المرأة الجديدة» التى كتبتها عام 1923 فى أوائل العشرينات من هذا القرن حيث كانت حركة تحرير المرأة بعد ثورة 1919 من أهم ميادين النشاط الاجتماعى، وإني لأعجب اليوم وأنا في شيخوختي المتطلعة إلى المستقبل والمنتمية إلى التقدّم والتحرر كيف كنت في شبابي بهذه العقلية الرجعية المتحجرة.
كيف تفسر ذلك؟
ـ ذلك يرجع إلى أثر البيئة والتنشئة الاجتماعية والعائلية التى كانت تضغط على عقلية الشباب وتجمدها تجميداً، والنتيجة أنني عشت حياتى بالعكس، أو بالمقلوب، إذ كنت «شيخاً» متجمد العقلية في شبابي «وشابا» متحرر العقلية في شيخوختي، وهذا يدفعنى لمطالبة شباب اليوم بأن يعيشوا حياتهم بمنطقها الطبيعي فيصبحوا أصحاب عقلية بعيدة عن التجمد.
هل تعتبر الاستفادة من خبرات جيلك تطلع إلى الماضي؟
ـ بالقطع لا، بيد أنه من المهم أن ندرك؛ أن العمر الطويل يكسب الإنسان تجارب وخبرات يمكن أن تكون مفيدة لمن يقطع في الحياة شوطاً كبيراً، ويجهل الكثير مما ينتظره في طريق الحياة، هنا تظهر مهمة التجارب والخبرة عند من قطع طريق الحياة الطويلة من الشيوخ وهنا يصبح تلقين.
ونقل هذه الخبرات والتجارب للشباب واجب من أهم واجبات الشيوخ، وتبقى المشكلة الوحيدة في الطريقة التى تعطي بها هذه التجارب والخبرات لجيل اليوم، إن أخطر الأشياء هي فرض هذه الخبرات فرضاً على الشباب كأنها حقائق ثابتة، قرارات حاسمة ينفذها مرغماً، هنا تصبح هذه الخبرات ضرراً.
وإذن فكيف يمكن أن تنتقل هذه الخبرات؟
ـ أن تعرض بطريقة ديمقراطية، بحيث تقدّم في قالب المادة التى يمكن للشباب الانتفاع بها إذا شاء طواعية واختياراً، يقبل منها ما يشاء ويرفض منها ما يشاء، وما علينا نحن الشيوخ سوى أن نقول له إليك تجربتنا وخبرتنا في الحياة نقدّمها لك لتكون موضع نظرك وتفكيرك وأساساً لخطتك ومنهجك في الحياة.. ولكن إذا أردت!
تميزت في شبابك بين جيلك بالدعوة إلى «روحانية الشرق» في مواهة ما أسميته في عصفور من الشرق «بمادية الغرب» في الوقت الذي ارتفعت أصوات منها حسين فوزي، وطه حسين للمطالبة بالارتباط بحضارة حوض البحر المتوسط، وحضارة الغرب هل مازالت عند رأيك.. أم ماذا فعل به الزمن؟
– عندما كتبت «عصفور من الشرق» كانت أوروبا خارجة من الحرب العالمية الأولى مهتزة، ومبلبلة تترنح من صدمة هذه الكارثة البشرية وكان كثير من مفكري الغرب يخشون من انهياره، وكنا نحن فى الشرق قد بدأنا ننهض قليلاً ويستيقظ فينا الوعي بأنفسنا، ونحاول أن ننشىء حضارة نقف بها إلى جانب حضارة أوروبا الكبرى.وكنت عندئذ أريد أن أبحث عن موضع أقدام على هذه الأرض الجديدة، أرض حضارتنا الوليدة.. وكان السؤال المطروح يومها كيف نكون؟
وأيامها حاولت أن أنظر إلى خير ما فيه من تراث حتى ننجب أسباب الكوارث التى تهدر الحضارة الأوروبية.
هذا عن رؤيتك وأنت شاب فماذا عن اليوم؟
اليوم؟.. لقد تغيّرت الصورة تماماً فسرعان ما قامت أوروبا إلى ترميم ما تهدّم فيها في كلّ ميدان ولم يستطع الشرق أن يضيف كثيراً إلى النهضة التى كان قد خطط لها في عشرينات وثلاثينات هذا القرن وزاد الطين بلة، أنه ابتلى بمساوىء الحضارة الأوروبية من التكالب على المادة، من دون أن يضيف إليها محاسن النهضات من التجديدات الفكرية والمبتكرات العملية، والوثبات الفنية التى رأيناها في ميادين العلم والفن والتكنولوجيا في الحضارات الغربية.
وكلّ ما شاهدناه عندنا قعود وهمود وتمسك بشعارات جامدة والتغني بأمجاد قديمة لم نضف إليها شيئاً ولم نجدد فيها، ولذلك كثر الكلام اليوم عما يسمى الانحلال الحضاري الأوروبي، لإراحة أنفسنا من سباق النشاط الحضارى الحقيقى لأوروبا والعالم المتحضر.
وترتفع الأصوات هنا وهناك تنعي حضارة أوروبا وتتخذ من بعض الظواهر السطحية كملابس الشباب أو مظاهر لهوهم دليلاً على انحلال هذه الحضارات متجاهلة شتى نواح النشاط المثمر، والخلاق، والإنتاج الحقيقي في كلّ ميادين النشاط الإنساني والذي يقوده بحقّ أغلبية الشباب في تلك البلاد.
على ضوء تجاربك.. كيف يمكن للجيل الشاب أن يخطط لتكوين عقله وثقافته؟!
– أنا من أشد المطالبين بالتفتح على كلّ نشاط ذهني في الحياة، وأرفض رفضاً قاطعاً أي توجيه للشباب، يؤدي إلى السجن داخل حدود معينة بحجة صيانته من الزلل، فالتحجر والحبس لا يحميان من الزلل، ولكن التفتح هو العاصم الحقيقى.
ومن هنا فإن الشباب مطالب بأن يقرأ كلّ أنواع الثقافات بما فيها القيم، والغثّ، الضار والنافع، فليقرأ الشباب ما شاء له من قراءات بكلّ حرية وبلا وصاية ولنترك له فرصة أن يحكم بنفسه على قيم الأشياء وأن تتربى فيه ملكة التفكير الخاص والحكم الصائب، فالحجر على عقول شبابنا بحجة حمايته، يؤدي إلى عجز الشباب عن معرفة ما هو رديء وما هو طيب، ذلك أن الثمين تزداد قيمته بمعرفتنا للردىء.
هذا عن الثقافة فماذا عن الحياة؟
استيعاب الحياة، بمعنى التفتح التام على كلّ ما فيها والشباب مطالب بأن ينفتح عليها بكلّ حواسه، بالذهن أو بالذوق، فالثقافة ليست كلاماً نملأ به الرؤوس ولكنها يقظة كلّ الملكات والحواس للإنتاج الفكري أو الفني، أو الرياضي، كلّ مظاهر هذا النشاط يجب أن تكون مفتوحة أمام شبابنا، مع التوعية بالقيم منها والرخيص في مجال العلم والفن والأدب وكلّ مظاهر الإنتاج الحضاري، والتوعية شيء، والحجر والحصار شيء آخر.
والمعارف المتصلة بكلّ الفنون والعلوم، بدأت وطأة العمر، وضعف الصحة، وبالتالي قلّ نشاطي الخاص بهذه القراءات ولكن على الرغم من ذلك لم أفقد سبل الاتصال المباشر وغير المباشر بمصادر المعرفة التي تجعلنى غير بعيد عما يحدث في حضارة اليوم المتجددة باستمرار.
هل لعبت الجامعة دوراً في تكوينك الثقافي وأنت شاب؟
لعبت هذا الدور مدرسة الحقوق إذا لم تكن الجامعة قد أنشئت بعد، وقد انعكس هذا الدور على جيلى كلّه، وأذكر في هذه المناسبة أن استاذاً إنجليزياً كان يدرس لنا الاقتصاد السياسي، وقرأ علينا في هذا الفرع كتاباً انجليزياً صغيراً ومختصراً.
وكان شديد الصعوبة بالنسبة لنا، وكان هذا مصدراً من مصادر همي، غير أني بالصدفة سمعت الأستاذ يوماً يطلب إلينا الإطلاع على كتب غيره في المكتبة، وإلى هذه اللحظة كنت أتخيل أن هذا الكتاب هو الوحيد من نوعه فى العالم كلّه، فلما ذهبت إلى المكتبة وجدت العديد من الكتب التى سهلت لي هذا العلم لكثرة تفصيلاتها وكان من رأى أساتذتى في المدرسة أن العبرة ليست فى حفظ كتاب بعينه، ولكنّها باكتساب المعلومات من أي كتاب شئنا، ذلك أن الهدف الرئيسى هو تنمية روح البحث، والتفكير، والاختيار الخاص لما نبحث عنه.
الحب.. الزمن
ياشيخنا توفيق الحكيم.. قال الشاب الذي يحمل اسمك في مسرحية أهل الكهف أن الحبّ يهزم الزمن أن القرون لا تحصى عليه» فهل تحقق هذا الكلام؟ ألم يغير الزمن حبك؟
برغم أننى أكثر شباباً منك يا ابنتى، فمن الصعب عليّ الآن أن أتكلم عن الحبّ، أو أراه بالطريقة التى تكلمت عنها في شبابي، لأن من كان مثلاً شاباً شيخاً، لا يعطى للحبّ نفس الأهمية التى يعطيها له الشباب، فالحبّ هو شعلة حياة وأمل وافق ينكشف فجأة أمام الشباب، ما لم يكد بشبه العالم المطلق، وعندما يكون الشباب في حالة حبّ حقيقي أي منزه من الأغراض الوقتية القريبة، يصبح الحبّ في لحظة من لحظاته، مثله مثل الكشف الصوفي، نكاد نراه عالماً رحيماً يستطيع أن يعيش فيه وبه وحده حياة كاملة خصبة ممتلئة بالمشاعر، غنية بإشعاعات لا توصف. وقتها يصبح كلّ شيء في العالم مورقاً مثمراً، حتى آلام الغيرة والفراق والحرمان – ويضحك الحكيم وهو يقول وغيرها من أنواع الآلام التى أكد أذكرها الآن.
ويكاد الحبّ يدخل في نطاق الأحلام غير المحدودة، فتصور الجمال الروحي أو الجسدي عند المحبوب يصبح من الأشياء المطلقة، ككل المطلقات في الكون.
مرة أخرى هذا عن الماضى.. فماذا عن الحاضر؟
يمكننى أن أقول :إنه في المراحل التى يمكن وصفها بمراحل الكهولة للبشر أو العصور، فإن الحبّ يتخذ مفهوماً آخر مغايراً لما سبق، لما يدخل فيه من مطالب سريعة، أو أغراض مباشرة تدخله في خضم الحياة المادية المحسوسة.
وعند ذلك لا ينطبق عليه مفهوم الحبّ فوق الزمن أنه يصبح مرتبطاً بزمن معين قد يطول أو يقصر تبعاً لنيل الأغراض والمطالب المنشودة منه. فنحن في عصر لا يحتمل هذا النوع من الحبّ بالمعنى الكلاسيكي له، فسهولة اتصال الشاب بالفتاة في هذا العصر يجعل فترة توهج العالم المسحور بينهما قصيرة، فسرعان ما تنتهى إلى الزواج أو بالحصول على المطالب السريعة، ولذلك لا أستطيع أن أعرف بالتحديد مفهوم الحبّ عند الشباب اليوم في مجتمع أصبح الاختلاط فيه هو القاعدة.
العدد 1106 – 9- 8-2022