الثورة_أديب مخزوم:
خسارة كبيرة منيت بها الحركة الفنية التشكيلية السورية والعربية برحيل الفنان الكبير ممدوح قشلان صباح الاثنين 29 آب 2022 ، وهو من مواليد دمشق عام 1929 ، ومن أعمدة وأركان وكبار رواد الحداثة التشكيلية المحلية والعربية.
ولقد شارك في المعارض الجماعية التي أقيمت في دمشق ما بين عامي 1951 و1953، ومالبث أن سافر إلى روما لدراسة الفن، بعد أن لفت الأنظار إلى موهبته المبكرة. وتبدو لوحاته مفتوحة على المعطيات الجمالية الحديثة أو على بعض أوجه هذه المعطيات، فقد كان يعيد تنظيم المشهد المرسوم باعتماد الخطوط التي تعمل على تقطيع المشهد للبحث عن مكامنه أو عن علاقة تشكيلية وجمالية خاصة بالفنان نفسه، وكان يهتم في معالجة لوحاته بلون يكاد يكون الأكثر حضوراً في اللوحة، وما هو بارز في هذه الخصوصية تلك العلاقة الهندسية التي تفيد في تحريك المشهد بشكل يتوافق مع التأليف المتماسك الذي نشاهده في المدى التصويري.
وكان يؤسس كل خطوة من خطوات اللوحة على أرضية متينة تحمل معها خبرة عمر من البحث الفني الذي يمارسه باللون والتأليف.
ومن خلال تقطيع اللوحة إلى ما يشبه المربعات والمثلثات والمكعبات وأيضاً من خلال طريقته الخاصة في وضع الألوان كان يضفي ذلك الجو التقاربي على مجمل لوحاته التي يقدمها. وهكذا تتحول البيوت والأحياء القديمة والأشكال الإنسانية والأجواء الشعبية، إلى مساحات هندسية صغيرة، تدل على تكوين معماري في التعامل مع الموضوع، أي أنه في كسره للشكل الواقعي التقليدي، يبتعد عن الصياغة الانفعالية المباشرة، إن لجهة معالجة التكوينات التشكيلية أو لجهة صياغة المادة اللونية.
وتتداخل المساحات الهندسية التي تأخذ في أحيان كثيرة أشكالاً تقترب من المكعبات (دون أن يكون الفنان تكعيبياً في التأليف العام للوحته) لأن التكعيبية كانت تبحث عن جوهر الشكل، وهذا الهاجس لم يكن من ضمن أهداف الفنان الراحل ممدوح قشلان. تتداخل المساحات والمكعبات اللونية مع أشكال الواقع أو تبرز من خلالها، فكل حي أو بيت أو شكل إنساني كان يتحول إلى مجموعة من التكوينات الهندسية والمكعبات التي تكسر سكونية المشهد الواقعي وتحرك عناصره، وبالتالي تزيد من حوارية حركة التعبير بين الأشخاص في اللوحة أو بين العناصر المعمارية. وفي صياغة مساحاته اللونية كان يعتمد الفنان أسلوب التركيب الطبقي الذي يسمح لنا برؤية أكثر من درجة لونية في المساحة الواحدة.
وما يهمنا أن نشير إليه، هو تلك الوحدة الأسلوبية العضوية، التي تحمل بصمة الفنان الخاصة. هذه الوحدة التي تجعلنا غير محتاجين للبحث طويلاً عن نقاط الارتكاز التي تشكل عناصر لوحته التشكيلية. ثمة منظور تكويني وتلويني خاص يرى من خلاله مشهد المدينة القديمة، وما فيها من أبنية وشوارع ومآذن وأشجار وباعة وتجمعات إنسانية. إذ إن الأداء الفني التشكيلي الذي يستخدمه يعبر عن صراع واضح بين المفاهيم الثابتة (الموجودة في الواقع أو خارج اللوحة) وبين القناعات الشخصية الحاضرة دائماً في اللوحة، والتي تشكل عمق المنحى الأسلوبي لديه، فالواضح أنه كان يرسم أشكاله بمزاج الفنان وإحساسه الخاص.
هكذا كان الراحل الكبير، ومنذ أكثر من سبعة عقود، يسعى لكسر الشكل في اللوحة التقليدية، فهو عن قصد، لم يهتم باللون الطبيعي للأشياء التي كان يجسدها، بل كان يرسم في بانورامية مشحونة بالعناصر الصغيرة وبالتجمعات الإنسانية أحياناً، وكان يجنح في لوحات عديدة كبيرة نحو التشكيل الشعبي، ليعيد إلى الأذهان الجلسات الحميمية في البيوت الدمشقية القديمة. مع التركيز على استعادة أجواء اللباس الشعبي في الريف والمدينة، وإضفاء طابع الروائية الملحمية على أعماله الجدارية بشكل خاص.
وهكذا فالضوء يبدو هو الآخر متحرراً من قيود المنطق الكلاسيكي، يزيد من هذا التحرر، التقطيع الهندسي الذي يضفيه على أشكاله المرسومة، فهو يعبر في لوحاته عن إحساسه أكثر مما يتجه إلى تقديم الشكل بواقعيته التقليدية. لذا نشعر ونحن نشاهد لوحاته بجمالية أسلوبه الخاص، الذي يحافظ من خلاله على مهارة وتجليات التشكيل الحديث في تجسيد الشكل والحركة والتفاصيل التي تبرز قدرته على ابتكار العلاقات الفنية للأشكال المعمارية والإنسانية والأشكال المختلفة.
وكان يبرز قوة فائقة في الرسم، فالأشخاص في لوحاته يبدون وكأنهم يتحركون أمام العين، رغم أنه لا يعمل على إظهار التفاصيل الطبيعية كما هي في الواقع، بل يتخطاها ليبقى في حيز اللغة التشكيلية الخاصة والحديثة.