الثورة _ فؤاد مسعد:
مما لا شك فيه أن الحرب التي شنت على سورية أرخت بظلالها على مختلفة مناحي الحياة بما فيها الثقافية والاجتماعية والإبداعية ، لا بل امتدت لتشمل آلية التلقي والذائقة الفنية عند الجمهور ، فبدا تقبله لنوعية أعمال دون أخرى واضحاً في الكثير من الأحيان ، الأمر الذي تلقفه عدد من صناع الدراما فنسجوا أعمالهم بناء عليه واستطاعوا الوصول إلى الناس بسلاسة وسهولة لأنهم قدموا ما يحاكي ذائقتهم ويترجم حاجاتها ، في حين أهمله آخرون لصالح تلبية رغبات المحطات والمُعلنين فجاء تقبل الجمهور لأعمالهم أقل حرارة لبعدها عنهم وعن المزاج العام للمُشاهدة .
مرت ذائقة تقبل الجمهور للأعمال الدرامية بعدة مراحل ابتداءً من عام 2011 وحتى اليوم ، فانتصر بداية إلى الأعمال التي شعر أنها أكثر التصاقاً به في تلك المرحلة بالذات وخاطبت عقله ووجدانه وطرحت قضاياه وحاكت ما يجري على أرض الواقع وسط الألم والقهر والموت والتهجير وكل ما تركته الحرب من أثر في النفوس. وانقسمت هذه الأعمال إلى نوعين الأول حاول الغوص إلى العمق والثاني ركب الموجة بسطحية، واتجهت البوصلة فيما بعد إلى ما يوائم بين رؤية تلك الهموم ويلامسها وبين الابتسامة وإن اقترنت مع الدمعة ، فرجحت كفة الأعمال الدرامية التي تتعاطى مع الواقع بأسلوب فني جاذب بعيد عن القسوة المباشرة منتصرة إلى الناس البسطاء وللبلد واضعة يدها على الجرح بأمانة ، ومن أهمها مسلسل (ضبو الشناتي) إخراج الليث حجو وتأليف د.ممدوح حمادة عام 2014 الذي أكد أن العمل الذي يُقدم محتوى يحترم المتلقي ويلامس الوجع الحقيقي يحتل مكانة متقدمة. وعندما يتم إنجاز أعمال تتناول الحار والآني بصيغة فنية راقية دون استعلاء وتلقي الضوء على الحالات الإنسانية والبعد الاجتماعي لها يجدها الجمهور الأقرب إليه ، كما هو حال كل من (بانتظار الياسمين) إخراج سمير حسين وتأليف أسامة كوكش ، (عناية مشددة) إخراج أحمد ابراهيم أحمد وتأليف علي وجيه ويامن الحجلي.
اختلاف الأولويات لدى المتلقي مع الوقت فرض نفسه على المزاج العام للمُشاهدة ، وبدا يتضح بشكل أكبر أثر ما خلّفه الحصار الجائر والحرب من تداعيات معيشية على ظرف متابعة المسلسلات فقد أصبح لدى الناس اهتمامات أكثر إلحاحاً ، مما زاد من صعوبة جذبه وآلية إقناعه بأي عمل درامي وبات نوعياً وأكثر نضجاً في عملية الانتقاء، وبقيت القضايا الاجتماعية المعاصرة وخاصة تلك التي تتناول موضوع تداعيات الحرب في مقدمة ما يبحث عنه الناس شرط أن تجد الحامل الدرامي لها لتدخل إلى قلوب وعقول المشاهدين ، وهذا ما حصل في مسلسلي (أزمة عائلية) إخراج هشام شربتجي وتأليف شادي كيوان و(شوق) إخراج رشا شربتجي وتأليف حازم سليمان، واللافت أن كلا العملين تناولا موضوع انعكاسات الحرب على الناس ، الأول من زاوية تحمل الكوميديا والروح المرحة، والثاني من باب الحب في زمن الحرب بإطار ينوس بين الشفافية والقسوة ، وقد تم عرض العملين عام 2017 وهو العام الذي قُدم فيه الجزء الأول من (الهيبة) إخراج سامر برقاوي وتأليف هوزان عكو والذي أخذ منحى آخر مقدماً البطل الخارق الذي يستطيع سحق الأعداء مهما تغطرسوا فكان جاذباً لجمهور عريض بحاجة لمشاهدة هذه البطولات ، فكيف إن قُدمت بطريقة احترافية عالية المستوى وسخّرت لها الإمكانيات لنجاحها!.
اللافت أن الأعمال التي تدور ضمن إطار البيئة الشامية وحققت في سنوات ماضية شعبية واسعة تراجعت إلى الصفوف الخلفية وازداد تراجعها عاماً بعد آخر ، لتحل مكانها الأعمال المعاصرة أولاً والكوميدية الجادة ثانياً ، فالمشاهد بحاجة لرؤية حياته الحقيقية وشخصيات من لحم ودم ، لا بل حتى الأعمال العربية التي سعت إلى التغريب عن الواقع ومحاولة إنجاز دراما تشبه الأعمال المدبلجة لم تجد لها رواجاً كبيراً ، لذلك استطاعت مجموعة من المسلسلات مثل (فوضى) إخراج سمير حسين وتأليف حسن سامي يوسف ونجيب نصير، (مسافة أمان) إخراج الليث حجو وتأليف إيمان سعيد ، (على صفيح ساخن) إخراج سيف سبيعي وتأليف علي وجيه ويامن الحجلي .. أن تصل إلى الناس وتحقق حضوراً هاماً عبر احترامها للجمهور فيما قدمت من رؤى على صعيدي المضمون والصورة.
التالي