خميس بن عبيد القطيطي- كاتب من سلطنة عمان:
أعظم ثورة عرفت في القرن العشرين، وربما في التاريخ العالمي، ثورة استقلال الجزائر البلد الذي قدَّم ملايين الشهداء لنيل استقلاله، هكذا هي إرادة الشعوب الحرة لا يمكن أن يقف في طريقها أي قوة في العالم، هكذا كانت أعظم قصة تحرير شهدتها الجغرافيا العربية على أرض الجزائر.
قصة استعمار فرنسي دام 132 عاماً بحجم آلامه ودماره، كان هناك شهداء عانقوا المجد والخلود، وقدموا أعظم تاريخ لبلدهم عمد على شلالات دمائهم الزكية إعلان استقلال الجزائر في الخامس من يوليو 1962 وهو نفس اليوم الذي وطئ فيه الاحتلال الفرنسي أرض الجزائر قبل 132 عاما، فما تحقق من انتصار عظيم بفضل هذه الثورة المجيدة التي نحتفل بذكراها الـ68 اليوم، فهنيئاً لكم أيها الأشقاء في الجزائر ونبارك لكم ذكرى ثورة التحرير، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.
بقيت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي أطول فترة استعمار في الوطن العربي، واستفادت فرنسا من كل ثروات الجزائر البشرية والزراعية والطبيعية والجغرافية، وأدخلت اللغة الفرنسية تكريساً لفرنستها، كل هذه الحقائق مسجلة في التاريخ، وجندت فرنسا أبناء الشعب الجزائري إجبارياً، فقاتلوا في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية بعد وعود بمنح الاستقلال للجزائر بعد الحرب، والتي لم تفِ فرنسا بها بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
فبعد أن أعلن الحلفاء الانتصار في الـ7 من مايو 1945 من قبل الرئيس الأميركي ترومان ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرئيس الفرنسي شارل ديجول، انطلقت المسيرات والمظاهرات في الجزائر احتفاء بهذا الانتصار رافعين راية التحرير والاستقلال بناء على وعود سابقة بمنح الاستقلال على اعتبار وجود أبناء الجزائر في مقدمة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية، وفي تاريخ الـ7 من مايو 1945 عمت المسيرات والمظاهرات مدن الجزائر وقراها، فقامت فرنسا في اليوم التالي الـ8 من مايو باستخدام قواتها البرية والبحرية والجوية لقمع هذه المسيرات السلمية بشكل عنيف في مجزرة تاريخية بلغت (45) ألف شهيد، وتقدرها بعض المصادر الخارجية بين (50) و(70) ألف شهيد.
هنا أدرك أبناء الجزائر أن طريق التحرير لا يأتي إلا عن طريق الكفاح المسلح لنيل الاستقلال، فبدأت الحركة الوطنية وجبهة التحرير الوطني الجزائري بتنوير أبناء الشعب الجزائري بأن الاستقلال لن يتحقق بالمطالبات السلمية، لتبدأ المواجهات مع قوات الاحتلال الفرنسي واستمرت بين فترة وأخرى في حرب عصابات، إلا أن اشتداد ضراوة المواجهات بدأ في مثل هذا اليوم الأول من نوفمبر عام 1954، وهو يوم الثورة الجزائرية والتاريخ الرسمي لحرب الاستقلال الجزائرية، فاستمر النضال المسلح بدعم عربي مدة (9) سنوات، كانت أغلب الهجمات تنطلق من الأرياف نحو العاصمة الجزائر، فعانت فرنسا من استنزاف هائل بسبب هذه الحرب، وكان للدعم المصري بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر دور كبير في تعزيز مسار ثورة التحرير الجزائرية، حيث كان مكتب الحكومة الجزائرية المؤقتة في القاهرة، وانطلقت منها معظم النشاطات السياسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة، والتسليح يأتي من مصر وأولها كان تمويل صفقة سلاح بمليون جنيه، بالإضافة إلى 75% من الدعم العربي المقدم من جامعة الدول العربية حتى أن بن جوريون قال: على أصدقائنا المخلصين في باريس أن يقدروا أن “عبد الناصر” الذي يهددنا في النقب وفي عمق “إسرائيل” هو نفسه الذي يواجههم في الجزائر.
فشاركت فرنسا في العدوان الثلاثي بعد تأميم عبد الناصر قناة السويس نكاية بمصر، وبعد انسحاب دول العدوان بقرار دولي ومقاومة شرسة من أبناء مدن القناة وتجييش الشعب المصري والعربي في مواجهة العدوان عادت شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية وخصص بداية ريعها لدعم الكفاح المسلح لثورة التحرير الجزائرية، بالإضافة إلى ما قدمته الدول العربية الأخرى في مرحلة تعتبر من أزهى مراحل التاريخ العربي الحديث حيث نالت جميع أقطار وطننا العربي الكبير الاستقلال، وسيأتي اليوم الذي يتحرر فيه كامل التراب العربي.
واستكمالاً لقصة الكفاح الجزائري اضطر الفرنسيون إلى منح الجزائر حق تقرير المصير عندما أعلن شارل ديجول في عام 1959 أن للجزائريين الحق في تقرير المصير، وتقرر موعد الاستفتاء على الاستقلال بتاريخ الأول من يوليو 1962، وتم الاستفتاء في ذلك التاريخ لتسجل نتائج الاستفتاء الغالبية العظمى لصالح الاستقلال، فاعترفت فرنسا مباشرة بها من خلال رسالة وجهها شارل ديجول إلى عبدالرحمن فارس رئيس الهيئة التنفيذية المؤقتة للجمهورية الجزائرية باستقلال الجزائر، وتم اعتبار تاريخ الـ5 من يوليو 1962 اليوم الوطني لاستقلال الجزائر، وهو نفس اليوم الذي سقطت فيه الجزائر بيد الاستعمار في عام 1830.
لذا فقد تم استقلال الجزائر في نفس اليوم من عام 1962 بعد كفاح عظيم قدمه أبناء الشعب الجزائري، فنالت الجزائر الحرية والاستقلال، وسبق ذلك التاريخ أن تمت كتابة السلام الوطني الجزائري بتأليف الشاعر الجزائري مفدي زكريا، وتم إقراره الرسمي نشيداً وطنيا للجزائر بعد التحرير ويقول في بدايته (قسما بالنازلات الماحقات) ثم اتجه الشاعر مفدي زكريا إلى القاهرة في عام 1963 ليقوم الموسيقار المصري محمد فوزي بتلحينه وإهدائه إلى الشعب الجزائري، كما أدى الفنان عبد الحليم حافظ أغنية بعنوان الجزائر تتحدث عن الثورة الجزائرية، وقام المخرج المصري بإخراج فيلم جميلة بوحيرد الذي يتحدث عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وعن ثورة الجزائر.
إن قصة النضال الجزائرية بما حملت من إرادة وعنفوان وكفاح مسلح تُعد من أعظم قصص النضال العربي في هذا العصر كتبها أبناء الجزائر بدمائهم في ذاكرة التاريخ العربي الحديث، وهي تقدم شهادتها للأجيال العربية أن طريق التحرير والاستقلال لن يتحقق إلا بالمقاومة والنضال.
وهكذا دائماً نضال الشعوب عندما تكافح من أجل التحرير والعقبى لنا بعون الله في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، في الذكرى الستين لاستقلال جمهورية الجزائر الشقيق نرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات للأشقاء أبناء ثورة الجزائر العظيمة الذين قدموا أعظم ملاحم التاريخ في النضال العربي للتخلص من الاستعمار الفرنسي بعد أطول ثورة شهدها التاريخ (132) عاما رسموا فيها طريق المجد والشهادة والتحرير. تحية لأولئك الرجال العظام والرحمة والخلود لقائد ثورة الجزائر الأمير عبد القادر الجزائري ورفاقه الأبطال، وتحية لمن جاء بعده واستكمل طريق النضال من أجل الحرية والاستقلال، رحم الله أولئك الرجال الأبطال الأوائل الذين أسهموا في الاستقلال جمال عبدالناصر وأحمد بن بيلا وهواري بومدين وبوضياف والشاذلي بن جديد ورفاقهم وجميع شهداء ثورة الجزائر وكل المناضلين الشرفاء الأبطال في تاريخ أمتنا العربية، وعندما نستذكر استقلال الجزائر نستعيد تاريخاً عظيماً سجل في ذاكرة هذه الأمة الخالدة.
* المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة رأي اليوم