الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
في رسالة كتبها فرانز كافكا في عام 1902 إلى صديق الطفولة وزميل الدِّراسة الناقد والمؤرخ التشيكي أوسكار بولّاك (1883 – 1915)، يتساءل فيها عمّا يجعل كتاباً ما جديرًا بالقِراءة، يُجِيب كافكا بِعِبارة تحولت إلى أيقونة حول موضوع اختيار القراءة، تقول: «أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة الكتب التي تُدمينا، بل وتغرس خناجرها فينا، وإذا كان الكِتاب الذي نقرؤه لا يوقظنا من غفلتنا، فلِمِ نقرؤه أساساً؟ الكتب التي تُحزننا بعمق مثل وفاة شخص نحِبه أكثر مِن أنفسِنا، مثل أن نُنفى بعيدًا في غابة بمنأى عن الآخرين، كأنه الانتحار.. يجب أن يكون الكِتاب هو الفأس التي تكسر جمودنا، هذا هو اعتقادي.».
أذكر حين تفتح شغفي بالقراءة، كنت في مرحلتي الابتدائية، أي في مرحلة لا تؤهلني لخوض هكذا مغامرة، وهكذا مضمار أنهل منه ولا أرتوي, وأبحر في أعماقه وأقبل الغرق بداخله.. كانت لا تهمني تلك القاعدة، كنت منغمسة لحد الانهمار في القراءة حتى لم أكن أعي ما الوقت وما التاريخ.. لم يكن يهمني نوع الكتاب.
يقولون في علم النفس: «إن ذاكرتنا تتمتع بأوجه قصور حقيقية لا يمكن أن نغفل عنها، فهي في الأساس تشبه عنق زجاجة، إذ يكون «مُنحنى النسيان» -كما يُطلَق عليه- أشد انحداراً خلال 24 ساعة الأولى بعد تعلُّم شيء ما، وكأن الذاكرة في اليوم التالي تغشاها طبقة كثيفة تَحُول بيننا وبين ما قرأناه.. صحيح أن مقدار النسيان يتفاوت من شخص إلى آخر، لكن المؤكد أنك إن لم تُراجع الكتاب مرة أخرى ولو سريعاً، فإن الكثير منه سيتسرَّب من ذاكرتك شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي بشذرات عالقة في ذاكرتك.
كنت في مادة اللغة العربية أبرع في كتابة المواضيع- أي مادة التعبير- وهي مادة تدخل في منهاج اللغة العربية، وكانت معلمتي خلال درس التعبير دوماً تطلب مني قراءة موضوعي أمام الطلاب، لم تكن تطري عليّ بأي كلام مديح، حتى لم يكن إعجابها بمواضيعي, وهذا ما استشفيته من خلال ،صرارها كل درس على قراءة موضوعي، يشفع لي لديها عن توبيخي على أخطائي النحوية وتقريعها الشديد لي، الأمر الذي كان يُبدد كل فرحة وزهو لدي أمام زميلاتي بجميل صنيعي. والحقيقة كنت استعين بخبرتي الضئيلة من قراءاتي السابقة للكتب دون أن أشعر بذلك.. واطراؤها الوحيد لي في النهاية كان ( جيد.. ارجعي إلى مقعدك ). لكن في إحدى المرات استطعت أن انتزع منها كلمات الإعجاب بموضوعي، وكنت في مرحلة دراسية متقدمة، وبقيت مدرسة العربي ترافقنا في تنقلاتنا لصفوفنا الأعلى، حينها طلبت منّا كتابة موضوع حول انطباعناعن كتاب قرأناه وأحببناه، من جانبي، اخترت رواية ( الأم ) للروائي الروسي مكسيم غوركي من بين كل الكتب الرومانسية التي قرأتها سابقاً وكنت شغوفة فيها.. أبحرت في سكبها على دفتري، كنت أنا الكتاب والكاتب، أدرت أحداثه وتسلسله في نفسي، كانت بمثابة مراجعة عن الكتاب وفق رؤيتي.. ووفق تبعثر الكلمات في ذهني التي كونت لدي بدورها ذلك الخيال الذي قادني لأن أروي الرواية من خلال منظوري، تعاطفت مع الأم بيلاجيا، دخلت إلى عوالمها الداخلية إلى الحد أني تقمصت شخصيتها بمشاعرها وعواطفها ولحظات قوتها وضعفها.. كانت حياة الأم ومعاناتها وتطور تفكيرها من امرأة مهمشة خانعة مستسلمة لزوج عنيف اعتاد كل يوم على ضربها وإهانتها إلى امرأة اعتنقت النضال العمالي إلى جانب ابنها واستعدادها المخاطرة في حياتها في سبيل قضية آمنت بهاهي الراسخة في ذهني من كل الأحداث المزدحمة التي تناولتها الرواية.. تلك هي الشذرات التي كانت عالقة في ذهني، وهذا يقودنا إلى التأكيد مع خبراء علم النفس أنه لا يمكننا اعتبار جميع الذكريات الهائمة في ذاكرتنا عن كتب قرأناها أو أفلام شاهدناها منذ فترة طويلة ضائعة، فبعضها قد يكون كامناً يتحيَّن الفرصة المناسبة للظهور من جديد، وقد تأتي هذه الفرصة على هيئة حلقة سابقة تُذكِّرك بباقي أحداث الرواية، أو محادثة مع صديق حول كتاب ما قرأتماه معاً، فذاكرة البشر تنطوي على جميع الروابط التي تربط الأحداث ببعضها.
والحقيقة بالنسبة لي، أن ذكرياتنا عن القراءة لا تتعلق بالكلمات بقدر ما تتعلق بالتجربة، فنقول: «دائماً ما أتذكَّر أين كنت أجلس أثناء القراءة، أتذكَّر الكتاب نفسه، بمعنى أن ذاكرتي توافيني بالأشياء المحسوسة فقط، فأتذكَّر بسهولة طبعة الكتاب، وشكل الغلاف، ومن أين ابتعته أو استعرته، أتذكَّر كل شيء باستثناء المواضيع كاملة بكل تفاصيلها التي يُفصِح عنها الكتاب» والتي مهما حاولنا تسلّيِط بصيص من نور الذاكرة عليها، ولَّت هاربة، فتقف أمامها ذاكرتنا حائرة لا تدري من أمرها شيئاً، فيُغالبنا إثر ذلك شعور مريع لا ينفك يعبث بنا.
عشرات الكتب أو حتى المئات نكون قد قرأناها واستمتعنا بها أثناء القراءة، لكن نعاني دائماً من ظاهرة، ننسى كل شيء قرأناه بعد القراءة بمدة قد تكون أقصر مما يمكن أن تتحمله.
كتب إيان كراوتش مقالاً في صحيفة «النيويوركر» بعنوان «لعنة القراءة والنسيان» يقول فيه: «إن للقراءة وجوهاً عديدة، منها ما يترك فيك شعوراً بمزيج مُعقَّد من أفكار ومشاعر يتعذَّر عليك وصفها، ومنها ما هو عابر لا يترك أثراً عميقاً في النفس، ومنها ما هو خليط من الفكر والعاطفة ويمكن أن يتلاعب بمشاعرك في لحظة ما، ثم سرعان ما يتلاشى هذا الإحساس.. إذن هل يكون مقدار القراءة مجرد ضرب من ضروب النرجسية، وعلامة على هويتك وما كنت تفكر فيه في كل مرة واجهت فيها نصاً؟».
الحقيقة أن النرجسية لا علاقة لها بما إذا كنا نتذكر فصول حياتنا بأنواع الأدب الذي ملأها، مثل الروايات الرومانسية التي قرأناها في شبابنا أو الروايات البوليسية التي قرأناها في صغرنا، وحتى الشعر الذي كنا نحفظه ظهراً عن قلب، لكن أظن أننا إن كنا نقرأ الكتب على أمل بناء مكتبة ذهنية يمكن الرجوع إليها في أي وقت، فعلى الأرجح سنُصَاب بخيبة أمل.. ما قد نسهو عنه أحياناً هو أن الكتب والأفلام والأغاني والأشعارليست ملفات نرفعها إلى أدمغتنا مثل أجهزة الحاسوب، بل هي جزء من نسيج الحياة نَحُوكُه مع أي شيء آخر.
كان ذلك منذ عدة سنوات، لنتخيل الآن كم المعلومات الهائل الذي قد نتعرَّض إليه اليوم! في مقال نشرته صحيفة «مورنينج نيوز» بعنوان «اضطراب نهم القراءة»، تُحلِّل فيه الكاتبة نيكيثا باكشاني معنى هذه الإحصائيات بقولها: «تَغيَّر معنى القراءة اليوم، فأصبح ما نقوم به مجرد استهلاك الكلمات، خاصة تلك التي نقرؤها على الإنترنت للحصول على معلومات معينة، وهذا النوع من الاستهلاك لا يسمح للمعلومات بأن تستقر بعمق في الذاكرة».
يتفق جاريد هورفاث من جامعة ملبورن مع باكشاني في هذا الموضوع بقوله: «إن استهلاكنا للكلمات أشبه ما يكون بالقهقهة اللحظية التي ما إن تنتهي منها حتى تشتعل شهيتك مرة أخرى للمزيد.. ربما تظن أن تجربة استهلاكك للمعلومات سريعاً دون تنقيح أو تحليل ستنتهي بتعلمك لشيء ما، لكنها في الحقيقة لا تتعدى كونها مجرد تجربة مؤقتة تبعث فيك شعوراً لحظياً بأنك تعلمت شيئاً ما، وسرعان ما يتبدد هذا الشعور بعد أن تنسى ما قرأته».
كان أفلاطون أحد أشهر النماذج التي لم تتردد في إبداء اعتراضها إزاء الكتابة أو أي وسيلة يمكن أن يُعَوَّل عليها وتؤثر على الذاكرة.. في حوار بينه وبين سقراط والأرستقراطي فايدروس، روى سقراط قصة عن ثيوس إله الحكمة عند القدماء المصريين الذي اكتشف الحروف وطوَّعها للكتابة، ثم جاء بعد ذلك إلى «ثاموس» ملك مصر وعرض عليه مَنح اختراعه لعامة الناس، غير أن الملك أبدى اعتراضه بشأن هذا الاكتشاف وتوجس منه خيفة بقوله: «سيسمح هذا الاكتشاف بتدفق النسيان إلى نفوس المتعلمين، وسيمزق إرباً ثقة الإنسان بذاكرته، ولن يثق بها بقدر ما يثق بالحروف المكتوبة».
وأظن مع عصر التكنولوجيا الحديثة تعطلت ذاكرتنا، وأصبحنا نملك بحق ما يدعونه ( الذاكرة السمكية ).
العدد 1120 – 15-11-2022