“بنك المستقبل”، أو بنك السعادة، بنك مختص بالرعاية الاجتماعية للمسنين، ينشط في مدن عالمية كبرى، وهو يقدّم خدماته لكبار السن فقط، العاملون فيه متطوعون من الشباب، وهو – كما فهمت – لا يمنح قروضاً ميسرة، ولا مبالغ مالية لطالب الخدمة، بل يمنح شيئاً مختلفاً تماماً، هو ببساطة يعطيك خدمة مقابل خدمة.
تدفع خدماتك شاباً، فتستردها عند الحاجة، وكبر السن بما يعادل المدة التي نفذتها في شبابك، ودون النظر لمن يستفيد، المهم أن يكون المتطوّع، وضع رصيداً كافياً من خدمات الرعاية، يوم كان بإمكانه ذلك، وكل المطلوب، أن يقوم المتطوع بتسجيل اسمه وعنوانه ويؤكد رغبته بهذا العمل، ليقوم البنك بالبحث عن شخص بحاجة للرعاية، من كبار السن، ممن قدموا خدمات مماثلة لمواطنيهم عبر هذا البنك، فيتم التواصل بمعدل سنوات الخدمة، دون أي مقابل مادي.
الموضوع على بساطته، ينطوي على الكثير من الرسائل المهمة لخدمة الناس، خاصة في عالم تحضر فيه بشدّة ثقافة الاستهلاك، والأنانية، وتفضيل الذات، عالمٌ يهتم فقط بالأقوياء، دون النظر لتاريخ الإنسان أو عطاءاته، وما تركه من منجزات فردية وعامة، عالمٌ تكثر فيه دور العجزة والمسنين، خيارٌ متاح، حيث الأبناء في سباقٍ مع الزمن، لتأمين متطلبات الحياة لهم ولأولادهم، يشغلهم عن رعاية آبائهم المسنين، وسط رضوخٍ مؤلمٍ لمصطلحات غريبة عن مجتمعنا وواقعنا، ومستقبل أوطاننا.
في ظل هذه الحال، تبدو الحاجة لترجمةٍ حقيقيةٍ لمفهوم الرعاية الاجتماعية، بكل ما يحمل من أبعاد وعناوين، رعاية تشمل الجميع وللجميع، رعاية ليست شعارات وكلمات بلا مضمون واقعي، رعايةً تذيب الجليد، وتمسح الغبار المتراكم فوق مكاتب هيئاتها ومؤسساتها الرسمية، وتمتّن العلاقة بين هذه المؤسسات، ومثيلتها من هيئات ومؤسسات المجتمع المحلي، ومثلها جمعيات الرعاية الاجتماعية الواقعة تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وما تشكّله هذه الجمعيات من انتشار واسع على مساحة البلاد، وما تقدّم من خدماتٍ، ومساعدات مادية وعينية لجمهورٍ كبيرٍ من المواطنين.
وحيث لا يجوز التعميم، هناك جمعيات واجهية، تخدم مصالح منتسبيها فقط، ودائرة ضيّقة، يحدد قطرها مجالس إداراتها،الأمر الذي يدعونا لمراجعة مسؤولة لواقع وعمل تلك الجمعيات، وتفعيل أعمالها، ودورها، وإلزامها ببرامج رعاية وخدمات اجتماعية، تدخل الفرح لقلوب الكثير من المحتاجين في مثل هذه الظروف.
نقطة مهمة، في نطاق الحديث عن مفهوم الرعاية، تأخذنا للحديث عن مفهوم موازٍ، لا يقلّ أهمية عمّا سبق، هو مفهوم المسؤولية الاجتماعية.. هذا المفهوم لا يخصّ الدور المؤسساتي للدولة، بقدر علاقته القريبة من عموم المجتمع بكافة شرائحه، ومستوياته، وبشكل خاص مجتمع الاقتصاد والأعمال، حيث يوجد عددٌ محدودٌ من رجال الأعمال، يدركون المعنى الحقيقي لهذا المفهوم، والدور المناط بهم في التخفيف من الآثار السلبية التي أصابت البلاد في ظل سنوات الحرب العدوانية، والأزمة على البلاد والعباد، ولازال هذا الموضوع مطرح جدل عقيم، لكن صوتا لمسؤول في غرف التجارة، قالها صراحة، حين عدّ أن المسؤولية الاجتماعية بمفهومها الخاص أهمّ من التجارة في حدّ ذاتها، واصفاً إياها بأنها «بركة التجارة» وتقوم على المشاركة بعيداً عن الصدقة.
وطرح عدة أمثلة عن مبادرات كان لها أثرٌ فعال على أرض الواقع، ودعا إلى خلق نوعٍ من التنافس العلني بين التجار لفعل الخير أو للتبرع بمبالغ لأهداف محددة، وقال: “كما كنّا نتباهى بأنواع السيارات التي نمتلكها وبمواصفاتها، لا يوجد ضررٌ أيضاً من التنافس العلني على فعل الخير والتصريح بالمبالغ المدفوعة ضمن التجمعات التي تخصص لهذا الغرض”.
فالمسؤولية الاجتماعية لا تعني التباهي والتمادي والاستعراض بفعل الخير، أو المشاركة بفعاليات لا تكتمل دون كاميرات وصور وجمهور يصفّق لصاحب المبادرة.
المسؤولية الاجتماعية ديونٌ في رقاب من يستفيد منها، وعليه أن يسعى للوفاء بها عندما يكون قادراً، أو يؤسس لها رصيداً يستهلك منه في المستقبل عندما تضيق في وجهه المساحات، وينفك من حوله الأصدقاء، والأهل، والأولاد، فيقف وحيداً ينتظر من الله فرجاً أو حسن الختام.
فما أجمل أن نعيش شعورَ أن كلّ مواطن مسؤول، عن نفسه، وعن الدائرة المحيطة به، حيث تتعانق الدوائر وتلتقي مع بعضها مشكلّة حالةً وطنيةً شاملةً للجميع، دون استعراض أو منيّة لأحد.
المسؤولية الاجتماعية، أن تعمل في حاضرك، ما تجده أمامك، وأن تحبّ للآخرين كما تحبّ لذاتك، ولذويك.. فالاستثمار الحقيقي، ما حمل الخير لصاحبه وللناس، وصدق القائل: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه.. لا يذهب العرف بين الله والناس.
بشار الحجلي