سعاد زاهر:
حين تضطر للتكلم بلغة أخرى خلال ترحالك قصير الأمد، فإن الكلمات تخرج منك بميكانيكية، كأن أحدا سواك يقولها، وتمر المواقف بلا أي أثر، وحين تلتقي في تلك الأمكنة بمن يتكلم العربية تشعر أن روحك اشتاقت لها.
ويبدأ الكلام يتدفق كأنك في جلسة بوح، كل ما يهم فيها، الحالة الوجدانية حيث تشعر بكل حرف تقوله، وتكتشف الفرق بين أن تفرض عليك لغة لا تمت الى روحك بصلة وأخرى توحي لك بكل معاني الانتماء والحالات الوجدانية.
وإن ذهبنا إلى أمكنة أخرى بعيدا عن الحالة العاطفية لتعاطينا مع لغتنا الأم، ألا نرى أنها تعاني من مشكلات عديدة، في زمن تكثر فيه الولاءات للغة الإنكليزية التي تطورت وسيطرت وأصبحت كل معالم التكنولوجيا مسطرة بها…؟
ألا تبدو لغتنا في مواجهتها تعاني خاصة وعالمنا العربي يعيش كل هذا الخلل في الهوية والانتماء والزحف نحو أماكن أخرى تتحدث بكل اللغات إلا لغتنا…!
في ملفنا اليوم بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، نتوقف مع العديد من الآراء لأصحاب الشأن نستطلع واقعها وحالها وآفاقها…
كلمة الدكتور محمود السيّد رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق
بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية
إنّ من نعم الله على أمتنا العربية الإسلامية أن أنزل الله سبحانه وتعالى رسالته السمحة في القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وما علينا نحن أبناء هذه الأمة إلا أن نعتز ونفتخر بهذا الإكرام الرائع، وهذا التشريف السماوي الذي لا يعلى عليه أي تشريف آخر.
وإن من نعم الله على أمتنا أيضاً أن كانت لغتها العربية من بين اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، وهذه اللغات العالمية المعتمدة هي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية، ثم أضيفت إليها العربية، وعلى أبناء الأمة أن يقدروا عالياً هذا الصنيع العالمي تجاه لغتهم في الوقت الذي نجد فيه دولاً عظمى لم تكن لغاتها من بين هذه اللغات المعتمدة داخل الأمم المتحدة من مثل ألمانيا وإيطاليا واليابان والهند وإيران.. ومن المؤسف حقاً أن يستعمل بعض ممثلي الدول العربية في الأمم المتحدة ومنظماتها اللغة الأجنبية غير مهتمين بنظرة الآخرين إليهم في الوقت الذي تتبوأ فيه لغتهم المرتبة العالمية.
ولقد كانت لغتنا العربية لغة عالمية من قبلُ إبان ألق الحضارة العربية الإسلامية، وذلك عندما تمثلت التراث العلمي والفلسفي لأعرق الحضارات المعروفة في التاريخ من يونانية ورومانية وفارسية وهندية من دون أن تنزل عن سماتها وأصولها، وجرى نقل أفانين العلم إلى أوربا، وتجلى ذلك في رسائل جابر بن حيان في الكيمياء، والرازي وابن سينا والزهراوي وابن النفيس والكندي في الطب، وابن البيطار في النبات، وحنين بن إسحاق في التشريح، وابن الهيثم في علوم الطبيعة والبصريات، والبتاني في الفلك، وابن ماجد والشريف الإدريسي في الجغرافيا، وابن خلدون في علم العمران، وابن رشد في الفلسفة، وابن جني والخليل والجرجاني وسيبويه في علوم اللغة.
وظل النتاج الفكري العربي في مخطوطات الرازي وابن الهيثم وابن سينا والزهراوي وابن النفيس معتمداً في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر، وماتزال تسمى بعض المركبات الكيميائية بأسمائها العربية كالكحول والشراب، وغيرها في مجالات متنوعة كالنظير والياسمين والليمون والسكر والقطن … الخ.
وشتان بين عالمية اللغة العربية من قبلُ وعالمية اللغة الإنجليزية في عصرنا الحالي، فأمتنا احترمت اللغات الأخرى وأربابها، وترجمت عنها، ولم تعمل على إبعادها، في حين أن دعاة العولمة في أيامنا يعملون على تهميش لغات الشعوب، وفرض لغتهم مكانها.
وإذا كانت العربية قد تبوأت هذه المكانة الكبيرة من قبلُ، فإنها في وقتنا الحالي تتبوأ مقاماً عالمياً، ولم تكن لتتبوأه إلا لعراقتها، ونسبة عدد المتكلمين بها على الصعيد العالمي إن في الدول العربية إذ يزيد عدد المتكلمين بها على 450 مليوناً، أو في توق أبناء الدول الإسلامية غير العربية إلى تعلمها نظراً لأن عبادتهم تكون بوساطتها، وعددهم يزيد على المليار ونصف، ونظراً لكونها اللغة الرسمية في الدول العربية وبعض الدول الإسلامية إلى جانب لغتها الأم، وقد اعتمدت في بعض الجامعات الأجنبية على أنها لغة أخرى يختارها الطالب، ويجري الإقبال في العالم على تعلمها لأسباب عدة.
وثمة حقيقة لابد من الإشارة إليها، وهي أن العربية اعتمدت بين اللغات العالمية في الأمم المتحدة عام 1973، ونسأل ما دلالة هذا التاريخ؟ إنه عام حرب تشرين التحريرية التي أثبت فيها العرب تضامنهم ووحدة كلمتهم وانتصارهم على العدو الإسرائيلي بفضل هذا التضامن وهذه الوحدة، ففرضوا وجودهم على الصعيد العالمي، واللغة ترافق الأحياء الذين يتكلمونها، تقوى بقوتهم وتضعف بضعفهم، ورضخ الآخرون لإرادة أبناء هذه اللغة عندما وقفوا وقفة العز وإثبات الوجود.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الاستعمار يروم إبعاد لغات الشعوب والأمم، وفرض لغته مكانها، وهذا ما قام به الاستعمار الفرنسي في دول المغرب العربي، وفي سورية ولبنان، وما قام به الاستعمار البريطاني في مصر والسودان والعراق، إلا أن محاولاته كافة باءت بالإخفاق، وأثبتت سورية والجزائر أن انتماءهما إلى لغة الأمة إنما هو مظهر حضاري لا يمكن أن توصف به أمة لا تحترم لغتها، ولا يبذل أفرادها ما في وسعهم من أجل النهوض بها، وهو نهوض ينعكس على حاضرهم ومستقبل أبنائهم.
وإذا كان عالمنا المعاصر يؤكد دور التنمية البشرية في مجتمع المعرفة، فإن الاستثمار الصحيح هو في العقول وتنميتها بالمعرفة، وما كانت اللغة إلا طريق هذه المعرفة ولاسيما المعرفة العلمية والتقانية، وإن دور اللغة العلمية والتقانية في تحسين مردود القوى العاملة باللغة الأم يتعاظم بدرجة كبيرة مع التوجه نحو الاقتصاد المبني على المعرفة، وتعد الترجمة العلمية من وسائل إغناء اللغة العلمية والتقانية للقوى العاملة والنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
ويعد النمو الاقتصادي مفتاح حل أهم القضايا الاقتصادية العربية المعاصرة وهي توليد فرص العمل، وتنويع النشاطات الاقتصادية وزيادة دخل الفرد، وزيادة الناتج الإجمالي المحلي والعربي.
ومن هنا كان حرص مجمع اللغة العربية بدمشق خلال مسيرته عبر ما يزيد على قرن كامل على وضع المصطلحات باللغة الأم العربية الفصيحة مقابل المصطلحات الأجنبية، فأنجز المعاجم في مختلف ميادين المعرفة في الطب والفيزياء والكيمياء والمعلوماتية والتربية والفلسفة والجيولوجيا والرياضيات والقانون والنبات…الخ. توخياً منه إغناء اللغة بالمستجدات المعاصرة، وبقي المجمع حارساً للعربية الفصيحة، وعاملاً على خدمتها، وتمكينها وضعاً للمصطلحات العربية، وتحقيقاً لأمهات كتبها، ونشراً للمؤلفات والبحوث، وإلقاء للمحاضرات، وعقداً للمؤتمرات والندوات، وتصحيحاً للأخطاء، ومداً للجهات المعنية بأدلة التيسير في القواعد النحوية والإملائية، وقرارات المجمع في الألفاظ والأساليب…الخ، ويجب على المجامع العلمية اللغوية في الوطن العربي أن تضاعف جهودها كافة في التنسيق والتعاون والمبادرات الإيجابية خدمة لحبيبتنا الأثيرة لغتنا الأم العربية الفصيحة.