الثورة – أديب مخزوم:
مرت في 14 كانون الثاني 2013 الذكرى السنوية الرابعة عشرة لرحيل الفنان جريس سعد، الذي قدم على مدى نصف قرن، مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المتنوعة في تقنياتها وأساليبها، حتى أنه وصل في أواخر حياته إلى التجريد الهندسي، عرف كفنان واقعي وتعبيري، يضفي على لوحاته المزيد من العفوية على خطوطه وألوانه، في خطوات تجسيد الإيقاع المعماري، أو البيوت القديمة في الريف والمدينة ، إلى جانب استلهامه لعناصر الطبيعة والأشكال الإنسانية وغيرها. ولوحاته ظلت آتية من الإيقاع اللوني لجدلية العلاقة بين الوعي والانفعال المترسب في القلب والوجدان.
فالوعي وحده لايكفي لتشكيل فسحة اللوحة والعمل الفني الصادق، ولهذا كان يضفي المزيد من اللمسات العفوية والانفعالية على حركة خطوطه وألوانه. وكان يدمج في تكويناته التشكيلية ما بين تقلبات المشاعر والأحاسيس ومعطيات التكوين الهندسي أحياناً، مؤكداً على ضرورة تحريك التكوين الهندسي بضربات لونية متحررة تعكس تراكمات تأملاته لمعطيات فنون وثقافة القرن العشرين . وهو لم يجسد هذيان اللمسة الانفعالية العبثية التي سيطرت على بعض فناني جيله، وجيل الشبان الجدد، إنما جسد مشاهد العمارة القديمة والطبيعة والزهور، والأشكال الإنسانية وبأسلوب تصويري يتفاوت ما بين الواقعية والتعبيرية، والتي تبتعد مسافات عن الصياغة الاستهلاكية أو التجارية أو التسجيلية السهلة.
عالج لوحاته الواقعية بلمسات صغيرة متوازية في أغلب الأحيان، وهذه الضربات المتجاورة شكلت مدخلاً حقيقياً لتغييرالنظرة الجمالية تجاه بعض الأساليب أو الطرق السائدة في معالجة أشكال الواقع. وهو بهذه الطريقة وعبر اللمسات الخاصة التي كان يضفيها على عناصر لوحاته، منح السطح التصويري إيقاعية بصرية شاعرية معبرة عن مشاعره وأحاسيسه العميقة والمرهفة.
وعلى الرغم من كل ما يمكن أن نذكره من انه ظل على اتصال بالصورة وبالواقع المرئي، فإننا نستطيع أن نلمس في بعض لوحاته التي قدمها في مراحل مختلفة ( ومنها مرحلته الأخيرة) اتجاهاً نحو التبسيط لتأكيد الذات الفنية على الموضوع، أكثر من الاتجاه نحو تصوير المشهد المألوف.. وهكذا أضفى على موضوعه مسحة خيالية ورمزية وتجريدية أحياناً، ( لاسيما في لوحاته الأخيرة عن معلولا) التي عرضت في معرضه المشترك مع ابنته لانا في المركز الثقافي السوري بباريس، والذي شكل مدخلا لتعريف الجمهور الفرنسي على هواجسه وتطلعاته الفنية، لاسيما وان المعرض تضمن (حوالي 70 لوحة) من مراحل متنوعة مرت بها تجربته التي سبق وعرض نماذج منها في معظم المعارض الجماعية الرسمية التي أقيمت في دمشق ، حيث تحولت البيوت القديمة إلى بنى تشكيلية تقترب من المستطيلات والمربعات والمثلثات ، حين عمد إلى تحليل العناصر المعمارية وأعاد صياغتها بمنظور تشكيلي هندسي.
هذا التنقل بين الرسم الواقعي والخيالي، وما يمكن إدراجه في إطار الرسم الرمزي والتعبيري والتجريدي، منح تجربته حيوية متجددة بعيدة عن هاجس مسايرة موضة الرسم بأسلوب واحد، هذه الموضة التي جعلت الكثير من التجارب تدور في فلك التكرار والترداد الرتيب، دون أن تتوفر لدى أصحابها القدرة على التجاوز والتجديد والتطوير.
وعلى هذا يمكن القول إن تجربة الفنان الراحل جريس سعد (من مواليد قطنا 1934) تميزت بحيويتها وبتنوعها، سواء على صعيد المعالجة، أو على الصعيد التقني ( زيتي و مائي واكريليك ومواد مختلفة..) هذا إلى جانب اعتماده طريقة التشكيل بالفسيفساء الملون في لوحته الجدارية البانورامية التي يمكن لأي شخص أن يراها، كونها تغطي قسماً من واجهة مبنى الاتحاد العام للفلاحين في دمشق، والتي أنجزها بمشاركة الفنانين عزيز إسماعيل وعلي السرميني. ويمكن اعتبارها من أهم اللوحات الجدارية الفسيفسائية الحديثة في سورية (6×14 متراً) وتعطي هذه الجدارية صورة بانورامية سحرية عن حياة الفلاحين، ومدى ارتباطهم بالأرض والعطاء والوطن، فضلا عن تجاوزها البعيد للنطاق التقليدي المتبع في اللوحات الجدارية، واستلهامها للتراث الشرقي الزخرفي و الفلكلوري والشعبي.