الثورة: أديب مخزوم
زهير حسيب واحد من أهم فناني جيله، تعاطف منذ اللحظات الأولى مع كارثة الزلزال، ورسم الأمهات المفجوعات، والوجوه المنتشلة من تحت الأنقاض والركام، ويمكن اعتبار لوحاته الأحدث، بمنزلة خطوة أولى في اتجاه تثبيت ركائز ودعائم فنه المتفاعل مع حدث الساعة وتداعياته المأساوية، حيث ركز لإبراز حالات الإختناق والموت، وصولاً إلى رسم الوجوه التي غابت ملامحها وسط أنقاص المباني المنهارة والمتصدعة والمعرضة للسقوط والتداعي والانهيار.
ومن الناحية التشكيلية والتقنية عمل على تنويع المفردات التشكيلية، حيث تنقل من لغة الرماديات (في لوحة الأم الحاملة طفلها على رأسها، ولوحة وجه من تحت الأنقاض) إلى لغة اللون في لوحة أو لوحات أخرى، كما تنقل بين التصريح والتلميح مبرزاً، العلاقة القائمة بين اللون والوهج، وبين الخط والحركة، في خطوات تجسيد الوجوه الإنسانية والمساحات التجريدية، ضمن هاجس إبراز التضاد بين الشفافية والوهج، وبين السكون والحركة.
وأهم مايمكن أن نجده في لوحاته الأخيرة (من تحت الأنقاض) يكمن في الاختصار والاختزال البليغ لملامح الوجوه، والذي وصل إلى ما يشبه الحركة الحيوية الباحثة عن تجديد متواصل.
هكذا تدرج زهير حسيب في معالجته للوجوه ما بين الوضوح والغياب، فعندما يكون في حالة انفعالية تأتي الخطوط سريعة ومتوترة، تختزل الصورة الواقعية في فضاء اللوحة، وتبرز الإشارات أوالمدلولات التشكيلية المعبرة عن تموجات الحالة الداخلية الانفعالية. أما حين يكون في حالة هدوء فإن أشكاله تقترب من ملامسة الواقع، وتصبح اللوحة أقرب إلى الصياغة الواقعية ـ التعبيرية. فالتوتر الداخلي الذي يعيشه الفنان ليس سوى انعكاس للتوتر الخارجي والمأساة العامة.
وهو في هذا النطاق يظهر مقدرة من جديد في معالجة الوجوه والأجساد، فهو يصوغ أشكاله بخطوط وحركات ولمسات لونية متزايدة الحساسية، كما يتجه نحو الاختصار البليغ الدي نلمس في جزئياته، خلاصة فنه العفوي ومهارته التقنية ومنهجه العقلاني والعاطفي في آن واحد، ليصل إلى التشكيل المطلوب المعبر عن التشكيل الفني، الذي يتولد من خلال الإضاءة المتدفقة في فسحات اللوحة، فالمساحات المضاءة تزيد من حدة المساحات الخافتة وتربط بين تكاوين العناصر والأشكال.
وتقنيته تكمن في خاصية كونه فناناً أكاديمياً بالأساس وملوناً بارعاً يعرف كيف يتعامل مع الاتزانات الخفية، ويطوع العلاقات القائمة بين العتمة والضوء، وبين الخط واللون، بين الصمت والتفجير، الشيء الذي يضعنا أمام حقيقة تقوم على محاورة العين، بالإضاءات اللونية والالتماعات الموزعة بشكل عفوي يتوافق مع التأليف العام للوحة.
وهذا يعني أنه يجسد جوهر الإيقاع التعبيري المأساوي، وخاصة في تعابير العيون وملامح الوجوه المفجوعة، للوصول إلى الشكل الوجودي لتعابير القلق والكآبة والحزن الكلي، ولهذا يجسد تعابير الوجوه الغائرة والمطهرة بالأحزان والآلام واضعاً كل طاقاته لتطوير مفاهيمه التعبيرية، وهو في الأغلب لا يبقى عند حدود الاستخدام العادي للمادة، فسطح اللوحة على سبيل المثال لا يأخد بريقه الاستعراضي، بل يبدو متقشفاً وفيه المزيد من إيقاعات التشطيب والتحوير والتحريف والإبادة، وقد يتحول الشكل الإنساني أو الوجه إلى مجرد خواطر تذهب إلى ترجمة انفعالاته الداخلية وحزنه الدفين، بقدر ما تبتعد عن المعنى التزييني والطروحات الصالونية.
فالوجوه والأجساد التي يقدمها زهير حسيب في هذه المرحلة، تطرح تساؤلات مقلقة وحادة، ولاسيما حين يصل إلى أقصى حدود التحريف والتشطيب الدادائي، ولهذا السبب تحقق عناصر الصدمة لدى المتلقي العادي التواق دائماً إلى التشبه بالصورة والأصل والإنموذج المثالي، كأنه من خلال هذا التنويع التعبيري القلق يصر على عدم سلوك الإيقاع البصري الذي يسير بتعبيريته القصوى إلى المدى التشكيلي المحدد بنقاط ارتكاز أسلوبية ثابتة، أو كأنه في حيرة وقلق دائمين ولاسيما أنه يلغي من الأساس هواجس الوصول إلى معطيات التجربة التشكيلية المؤطرة أوالمحددة، وهو في تحولاته وتنقلاته التعبيرية والتقنية يصل إلى ضفاف العمل الفني المثبت كصرخة رفض للطروحات المستهلكة والجاهزة، من خلال انحيازه الكلي هذه المرة نحو مظهر الحركة الحيوية المعبرة عن جحيم العذاب الإنساني، والأنين الخارج من تحت الأنقاض.
