ثورة أون لاين :د. فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السورية
حقّـق الشعب السوريّ العظيم مزيداً من الانتصارات بانتخاب رئيس البلاد، وسط موجات تسوناميّة من الملايين البشرية التي زحفتْ داخل سورية وخارجها إلى صناديق الانتخابات، لممارسة حقّها وواجبها في تظاهرة ديمقراطية شفافة أثارتْ إعجاب شعوب العالم. وسيُكتب الكثير حول ما تمّ، وسيحتاج الغرب إلى وقت طويل لتحليل المعجزة السورية وفهم ما حدث. ورغم ما سمعناه من الأبواق الغربية سواءً من رؤساء دول أو وزراء خارجية في إطار عدم احترامهم إرادة الشعوب، إلاَّ أنّ قرار الشعب السوري، الذي جاء صدمةً لهم، يقف أمام هؤلاء دليلاً واضحاً على أنّ الشعوب الحرّة لا تقبل التضليل والضغوط والبيانات الفارغة حول الديمقراطية.
لا أدّعي معرفتي بالتاريخ الأميركي أو الأوروبي أفضل من أصحاب هذا التاريخ. أو لأكون أكثر تحديداً، أعتقد أنّ بعضاً من وزراء خارجية أو قادة هذه الدول لا يعرفون تاريخهم أو أنّهم يتعمّدون جهلهم به. وما يدعوني إلى ذكر ذلك هو أنّ قادة ووزراء بعض هذه الدول يتعاملون مع ما يشهده عالم اليوم من تحديات كأنّهم لا يعرفون ما قام به قادتهم وشعوبهم إزاء تطورات مفصلية في تاريخهم. وإذا كان هؤلاء الرؤساء والوزراء يجهلون تاريخ بلادهم فتلك مصيبة، أمّا إذا كانوا يحرّفون هذا التاريخ ويستهينون به فالمصيبة أعظم. ومما لا شك فيه أنّني، مثل كُثر آخرين، أؤمن بأهميّة قراءة التاريخ وضرورة الإفادة من دروسه، خاصّةً عندما يتعلّق ذلك بحوادث قادتْ إلى تغييرات عميقة ليس في تاريخ بلدان بعينها فحسب، بل أدّتْ إلى نشوء أوضاع جديدة حاسمة على المستويين الإقليمي والدولي.
عندما يتحدّث مسؤولو الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة اليوم عمّا حدث ويحدث في سورية أو عمّا يشهده في هذه اللحظات العراق الشقيق، فإنّهم يحاولون عبثاً قلب الحقائق والتمييز بين «داعش» سورية و«داعش» العراق. داعش، كما يعرف هؤلاء، بدأتْ إرهابها في العراق قبل سنوات من بدء الحوادث في سورية وامتدّ ذلك لاحقاً إلى سورية. فهذا التنظيم هو نفسه تنظيم «القاعدة»، وهو تنظيم «القاعدة» في العراق. هل سيعترف هؤلاء الرؤساء والوزراء بأنّ مقولتهم الرعناء الكاذبة نهاراً جهاراً حول أنّ إطالة أمد الأزمة في سورية هي التي أدّتْ إلى تنامي خطر الإرهاب في المنطقة وتهديده للعالم؟ وهل سيستمرّ هؤلاء المسؤولون في إخفاء الحقيقة من خلال تضليل الشعوب عبر وسائلهم المختلفة والمعروفة؟ أم أنّهم لا يعرفون تاريخهم وتجارب شعوبهم؟ إنّ عملية تصنيع القيادات وإعدادها في هذه الدول لم تعد تعتمد على البعد المهني والمعرفي وحتى الأخلاقي، بل على معايير كثيرة يأتي في مقدّمها الولاء لـ«إسرائيل» وللمجمعات الصناعية الحربية والشركات المتعددة الجنسية. هكذا، فعندما يتحدّث وزير خارجية فرنسا عن حقوق الإنسان والديمقراطية، فإنّه لا يفكّر على الإطلاق في انتهاكات بلاده للحدّ الأدنى من حقوق الإنسان من خلال الجرائم التي اقترفها الاستعمار الفرنسي عندما قتلوا ما يزيد على مليون مواطن جزائري كي يمنعوا الجزائريين من حقّهم الإنساني في التحرّر وتقرير المصير. كما نسوا أنّهم ذبحوا عشرات الألوف في الهند الصينية والبلدان الأفريقية مثلما تُذبح الخراف، بل بكلّ دم بارد.
أمّا في سورية ولبنان، فإنّ الفرنسيين قصفوا البرلمان السوري، وهو رمز الديمقراطية في 29 أيار من عام 1945، وقتلوا حرّاسه إضافةً إلى قتل نحو 400 من سكّان دمشق خلال دقائق قليلة وفي يوم واحد. أمّا تعليق مشانق السوريين واللبنانيين في ساحات دمشق وبيروت لأنهم رفضوا الاستعمار الفرنسي لبلديهما، فإنّهم يتناسونه! إنّ قضايا الشعوب وحقوقها لا تسقط بالتقادم. وفي حين ما زال شعبنا يطالب الفرنسيين بالاعتراف بجرائمهم وباعتذار رسمي عن هذه الجرائم ودفع تعويضات للسوريين واللبنانيين، فإنّه لن ينسى أبداً فظائع وجرائم الاحتلال الفرنسي. أمّا الأميركيون الذين يحاولون أن تنسى الشعوب جرائم قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية ومجازرهم في فيتنام وفي العراق، وأخيراً وليس آخراً، قصفهم الإجرامي لليبيا الشقيقة وتدميرهم للدولة الليبية وتحويلها إلى بلد تتحكّم فيه الميليشيات والمتشدّدين هي جريمة لا تُغتفر ويجب محاسبة من اقترفها وتقديمه إلى المحاكم الدولية. ولن نتحدّث كثيراً عن بريطانيا التي تشهد شعوب العالم على جرائمها ضدّ الإنسانية لأنّها لا تُحصى ولا تُعدّ، ولنقل إنّ جريمة العصر التي اقترفتها بريطانيا هي جريمة طرد الشعب الفلسطيني من وطنه وحرمانه حتى من إقامة دولته المستقلّة وتقديم الدعم إلى «إسرائيل» لقتل مئات ألوف من الفلسطينيين وتسليم فلسطين هدية من الذين لا يملكون إلى من لا يستحقون، وهي كارثة لا يزال العالم يعيش مأساتها وتداعياتها الآن وغداً.
ما دفعني إلى كتابة ما سبق تلك الورقة المكتوبة باللغة الإنكليزية التي وقعتْ بين يدي ويمكن ترجمة عنوانها: «تركيز الغرب على إسقاط شرعية الانتخابات السورية». وبغضّ النظر عن اتفاقي أو عدم اتفاقي حول ما ورد في هذه الورقة من تحليل للأوضاع السورية والأزمة التي تواجهها بلادي، فإنّ أهمّ ما جاء فيها هي إشارتها التاريخية إلى ما مرّتْ به الولايات المتحدة من تجارب عبر تاريخها الانتخابي. فعلى سبيل المثال، في الانتخابات الأميركية الأولى عام 1789 لم يتمّ تعداد أصوات ولايات كارولاينا الشمالية ونيويورك ورودايلاند، رغم أنّ الاتحاد الأميركي كان مؤلّفاً من ثلاث عشرة ولاية فحسب آنذاك. كما أنّ جورج واشنطن، بطل الاستقلال الأميركي، وأوّل رئيس أميركي 1789-1797 ، فقد خاض الانتخابات من دون منافس ومعظم الأصوات التي حصل عليها لم يدلِ بها أميركيون، بل ممثلون غير منتخبين، «ومع ذلك فقد تمّ تخليد جورج واشنطن على ورقة المئة دولار» كما يقول كاتب الورقة! ويتساءل الكاتب هنا ما إذا كانت مثل هذه الانتخابات عبارة عن سخرية؟ أمّا الانتخابات الأميركية الأخيرة، فقد شارك فيها نحو 57 في المئة من الأميركيين بينما شارك في الانتخابات السورية 42.73 . أمّا الانتخابات الأفغانية التي أشادتْ بها الدول التي تحتلّ أفغانستان عسكرياً لأنّها تميزتْ على حدّ قولهم بـ»المشاركة الهائلة» فقد أغلق ما يزيد على ألف مركز انتخابي من المراكز المتوقّع أن يصل عددها إلى 7500 بسبب التهديد بالعنف.
تساءل البعض كيف يمكن إقامة الانتخابات خلال الحرب أو الأزمة العامّة أو الأزمة الإنسانية، والجواب عن ذلك، كما يقول الكاتب، هو أنّه لم يعترض أحد عندما أُقيمتْ الانتخابات في أفغانستان التي تحتلها الولايات المتحدة و»الناتو» بإشراف وإدارة جيش الاحتلال، لأنّ بعض الانتخابات تتمتّع «بالشرعية» فحسب لأنّ الغرب، والغرب فحسب، يريدها بكلّ وضوح!
لقد اعتبرت إعادة انتخاب ابراهام لنكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميركية 1861-1865 ، استفتاءً على الاتجاه الواجب اتباعه بعد ثلاث سنوات من الحرب الأهلية، فلو ربح الانتخابات فسيعتبر أنّ الأميركيين يدعمون الحملة العسكرية التي يقودها الاتحاد ضدّ الجنوب، ولو خسر فإنّ ذلك سيضعف شرعية الحرب. كما رفض لنكولن الاستجابة لأولئك الذين طلبوا منه تأجيل الانتخابات قائلاً: «لا يمكن أن تكون لدينا حكومة حرّة من دونّ انتخابات، وإذا نجح المتمرّدون في إجبارنا على تجاوز أو تأجيل الانتخابات الوطنية، فإنّ ذلك سيعني أنّهم هزمونا ودمّرونا». وقبل ذلك في المرّة الأولى التي انتُخب فيها ابراهام لينكولن قرّرتْ إحدى عشرة ولاية أميركية بما فيها أهم الولايات مثل تكساس وفرجينيا وفلوريدا ترك الاتحاد، فقرّر لينكولن شنّ حرب على هؤلاء «المتمردين». ونتيجة ذلك، خُلّد أيضاً على ورقة الخمسة دولارات! فماذا يقول السيد كيري عن ذلك؟
أمّا مهزلة الانتخابات الأميركية الأخيرة، فقد جرتْ عام 2000، عندما ألغى الأميركيون أكثر من مليون صوت للمرشّح آل غور ضدّ جورج بوش الإبن، إلاَّ أنّ الأخير ربح الرئاسة لأنّ المحكمة العليا للولايات المتحدة رفضتْ إعادة تعداد نحو 500 صوت في ولاية فلوريدا!
ما أقرب الأمس إلى اليوم. إنّ من يتطاول على سورية الحضارة والتاريخ والشعب الصامد إنما يتطاول على تاريخه هو بالذات، وإذا كان هؤلاء يعتبرون انتخابات ديمقراطية «صفراً كبيراً»، فإنّ الحقيقة هي أن من لا يحترم إرادة الشعب هو الصفر. ومن ناحية أخرى، ألم يعد معروفاً لدى العالم أنّ بعض الغربيين يشترون الانتخابات في بلدانهم بأموال تدفعها بعض الدول الخليجية التي أصبحتْ تمثّل اليوم «أكبر الديمقراطيات في العالم»!
تعيش سورية الآن عصر الانتصارات على أعدائها في الداخل والخارج لأنّها لم تنحنِ أمام عاصفة الغدر والدمار. وليعرف أعداء سورية أنّ شعبها الذي لم نُفاجأ بصموده وببسالته وإيمانه الذي لا يتزعزع بالدفاع عن كرامته سيلقنهم مزيداً من الدروس في الديمقراطية. أمضى هؤلاء الأعداء ثلاث سنوات ونيّفاً لمنع السوريين من الذهاب إلى الانتخابات، إذ أدركوا أنّ السوريين سيذهبون إلى صناديق الانتخابات وسيقولون نعم لقائد يثقون به ولجيشهم. وقال أحد المعلّقين: في حين عبّر المراقبون الغربيون عن دهشتهم حيال مشهد السوريين وهم يتدافعون للإدلاء بأصواتهم للدكتور الأسد، فإنّ الرسميين الأجانب في كلّ مكان عرفوا أنّ ذلك سيحدث، ولذلك وقفوا ضدّ الانتخابات. وجّه السوريون عبر هذه الانتخابات رسالة واضحة إلى الدول الغربية تقول إنهم لن يستسلموا وأنهم سيضحّون بالغالي والرخيص دفاعاً عن سيادتهم واستقلالهم. من هنا يمكن فهم حالة الهستيريا السائدة في الدعاية الغربية ضدّ سورية وقيادتها.
ربما يجب القول في النهاية إنه يكفي أن ينظر الأميركيون إلى تاريخهم كي يخجلوا من كلّ كلمة تقولها حكومتهم عن الانتخابات في سورية، ولكن يكفي أن ينظر الفرنسيون إلى حاضرهم كي يشعروا بالخجل من أقوال، بل أكثر، من أفعال رئيسهم.
في سورية تُصنع المعجزات، وعلى صخرة صمودها تسقط المؤامرات.