الملحق الثقافي-د. سلمى جميل حداد:
قدمت البرفسورة سلمى جميل حداد وهي الشاعرة والروائية، والأستاذة الجامعية، قدمت دراسة مهمة في قصيدة المشهد النيلي لجوزف حرب، ونشرت الدراسة مجلة الغاردينيا، والدراسة تقف عند رمزية البوم في الأدب والشعر وتقدم قراءات جمالية، من هذه الدراسة نقتطف :
يعتمد البحث بشكل رئيسي على تقسيم كليب (2020) للأمكنة في ديوان الشاعر اللبناني جوزف حرب «مملكة الخبز والورد» (1991) إلى نوعين: أمكنة مواتية واسعة ومفتوحة وأخرى معادية ضيقة ومغلقة.. ويمكن أن يكون الضيق والانغلاق نفسياً ومعنوياً لا مادياً، كما يمكن أن يكون المدى مفتوحاً وواسعاً إلا أنه يوحي بالضيق والانغلاق، والعكس صحيح( كليب 2020).
البوم في ثقافة العرب
تختلف أنظمة الرموز من لغة إلى أخرى وتتباعد بتباعد خلفياتها الثقافية (حداد 2006).. ففي كل مجتمع ثمة رؤية ثقافية خاصة بأفراده تصوغ استخداماتهم اللغوية وتميزهم عن سائر الثقافات وتمنحهم سمة الخصوصية (حداد 2020).. والبوم، كغيره من الكثير من الطيور والحيوانات، يحمل دلالات ثقافية شديدة التباين في الثقافات المختلفة تصل حد التأرجح بين الشديدة السلبية والشديدة الإيجابية وما بينهما من صفات تُنسب إليه ولا تستند بمعظمها إلى حقائق علمية فيما يتعلق بواقعه الفيزيولوجي أو طباعه بل تعود بجذورها العميقة إلى موروث الشعوب الثقافي من أساطير وخرافات وفلكلور، وغيرها.. فالبومة عنيدة، غبية، كسولة، عنيفة، قبيحة الصورة والصوت، قصيرة النظر، كثيرة السهر، تنذر بالشؤم والموت، تتسبب بالشر، تثير الخوف، تُستخدم في السحر والشعوذة، تفضل العزلة، ترمز لأرواح العالم السفلي، تنذر بالحظ السيء.. وهي رابطة الجأش، قوية النظر، تتمتع بالحكمة والمعرفة والقدسية والقوى الخارقة للطبيعة، تؤمّن الحماية من الحظ السيء ومن المرض والأرواح الشريرة، ترمز للحظ والانتصار على العدو، إلى آخره من الدلالات التي تعددت في الثقافات المختلفة وتنوعت مشاربها.. وقد تكون البومة من الطيور غير القلائل التي يُعتقد أن لأعضائها قدرات سحرية خارقة وفوائد استطبابية عند الكثير من الحضارات القديمة، كالهند على سبيل المثال (Morris 2009).
وللبوم عند العرب دلالات ثقافية ثقيلة شديدة السلبية، إذ يُجمعون على اعتباره نذير شؤم وموت وخراب وغالباً ما يستخدمونه في سياقات الذَّمِّ والشَّتِيْمَة وغيرها من السياقات السلبية الأخرى فهم يصنفونه من لِئام الطَّيْر (بتيان 1998ج2)، ويتشاءمون من صوته القبيح (المعجم الوسيط 1972)، ويعتبرونه نذيراً لحُدوث شَرٍّ ما في المستقبل (الدميري 2005 ج1) فيُقال: أشأم من بوم (ناصيف 2005)، ويُقال: اتْبَعِ البُومَ يَدلّك على الخَراب، وذلك لأنّه يَسْكنه.. ومن هنا جاءت تسمية أنثى البوم بأُمُّ الخَرَابِ (الدميري 2005 ج1).. ويُكنّى بالبوم عن الرجل ذي الشؤم عامة (الداية 2002)، ويُضرب به المثل في قُبح الصورة والصوت (المنجد في اللغة العربية المعاصرة 2001).. كما يُعرف البوم بالنَّكَد فيُقال: أَنْكَدُ مِن بُومٍ (ناصيف 2005)، وبعدم النفع فيُقال: لو كان في البُومِ خَيْر ما تَرَكَه الصيَّاد (الصواف 2005).. وقد أسهم ارتباط البوم بالليل والعتمة وتواجده وحيداً في الخرائب والمقابر وشكل عينيه الدائريتين المحدقتين في نسج خيوط هذه الصورة السلبية والمتحاملة في عمق ثقافتنا العربية وموروثنا الشعبي بوجدانه الجمعي.. ويذهب البعض إلى حد اعتباره واسطة بين عالمي الأحياء والأموات.. ويلتقي الغراب والبوم في الثقافة العربية في العديد من المفاصل التشاؤمية التطيرية وهذا ما يُفسر تسمية البوم بغُرَابُ اللَّيْلِ (الدميري 2005 ج1).
البوم والأمكنة المعادية في قصيدة «مشهد النّيلي»
إن قصيدة «مشهد النيلي» قصيدة طويلة، وقد انتقيت منها لأغراض هذا البحث خمسة مقاطع يتكرر فيها استخدام البوم كأحد الرموز ذات المحور الارتكازي المساهم بقوة في ترسيخ الخوف والشؤم والعتمة والموت والفجيعة في ذهن المتلقي وبالتالي تعزيز عدائية المكان.
المقطع الأول (ص 301)
يا أبناء الأرض الأمسُ مضى.. ماذا تنتظرون وأنتم مثلُ البُوم جلوسٌ عند مقابر من رحلوا؟
تركوا لغةً ملأى صدأً، وقوانينَ عليها عفنٌ، وطقوساً عَبَدَ الموجودُ بها اللاموجودَ.. أراقوا دمَكم فهتفتم: هذا قَدري.. جُعتم، فرفعتم أيديكم لله، ولُقمتكم فوق موائدَ من سرقوا الحِنطةَ منكم.
يستهل الشاعر المقطع الأول بمناداة أبناء الأرض في إشارة واضحة إلى أن المكان هو الأرض.. وبالرغم من أن الأرض مكان واسع ومفتوح، ومن المفترض أن يكون مؤاتياً، فإننا سرعان ما نشعر بأنه أحد الأماكن المعادية التي تولّد لدينا الشعور بالضيق والانغلاق والعتمة.. ويلقي الشاعر الضوء على تفاصيل الفظاعة التي حوّلت الأرض من مكان مؤات إلى مكان معادٍ.. فعلى تلك الأرض بوم ومقابر ولغة ملأى صدأ وقوانين عليها عفن وطقوس عبد الموجودُ بها اللاموجود ودم يُراق وجوع وسرقة وركود وانتظار.. وعليه فإن «… الضيق والانغلاق نفسيان ومعنويان لا ماديين» (كليب: 2020 ص 195) في حالة الأرض هذه.. لكن هذا الشعور بالضيق والانغلاق يتفاقم مع انتقال الشاعر في المقطع ذاته ومباشرة من مكان كبير ومفتوح (الأرض) إلى جزء محدد ومقيت ومغلق من هذا المكان (المقابر).. وبهذا نكون أمام نوع آخر من الضيق والانغلاق وهو النوع المادي والمعنوي الذي يفرزه المكان بكل ما يترافق معه من موت ودفن وحزن وفراق وحداد وخوف من المجهول.
من الواضح أن الشاعر يستخدم أسلوب المقارنة بين الحياة والموت لحث المتلقي على التغيير وإقناعه بعدم جدوى القبول بواقع الحال الذي هو أقرب للموت من الحياة.. وتكاد لا تخلو مفردة في المقطع من خيط خفي أو ظاهر يعزز الفكرة في ذهن المتلقي ويشد الدلالات إلى بعضها البعض لبلورة الرؤية العامة للمقطع بأكمله، وربما للقصيدة ككل.. فالشاعر يستهل المقطع بالنداء الذي هو عملية تنبيه عن طريق يا النداء والذي يؤدي وظيفة تنبيهية تحذيرية لأبناء الأرض، ويفترض الشاعر أن لديه الموقع والسلطة لممارسة هذا.. وفي «الأمس مضى» يظهر مفهوم الموت جلياً في «الأمس» على صعيد المعنى وفي «مضى» على صعيدي المعنى (أي انقضى) والقواعد (فعل ماض).. لكن مفهوم الموت هنا بالذات لا يخلو من الحياة، إذ يدعو الشاعر لترك الماضي حيث هو وفتح صفحة جديدة مع الحياة.. ثم يأتي فعل «تنتظرون»، الفعل اللاحركي الذي يدعم فكرة الموت بشكل غير مباشر عن طريق التأكيد على حالة الركود.. وما تشبيه أبناء الأرض بالبوم في «مثل البوم» في ثقافة ينذر البوم في لا وعيها الجمعي بالشؤم والخراب والعتمة والموت والفجيعة إلا أحد الخيوط القوية والمباشرة التي تدعم المكان (المقابر) وتعزز فكرة الموت في ذهن المتلقي الذي ينتمي لتلك الثقافة وتبلور الصراع الدرامي بين نقيضي الموت والحياة.. كما تعزز الوضعية اللاحركية «جلوسٌ» فكرة الجمود التي تشير بشكل غير مباشر للموت.. وتأتي كلمة مقابر لتشير إلى الموت بشكل فظ وصريح، تتبعها «من رحلوا» في إشارة للموت بشكل صريح ولكن مُلَطّف، حيث يظهر الموت كرحلة إلى مكان غير محدد (انظر حداد 2009 للمزيد حول تلطيف العبارات المتعلقة بالموت باللغتين العربية والإنجليزية).. وتعكس الجملة في صيغة السؤال استهجان الشاعر لموقف أبناء الأرض السلبي وعدم محاولتهم القيام بأي فعل لتغيير واقعهم والانتقال من حالة الجمود إلى حالة الحركة.. ثم ينتقل الشاعر إلى مجموعة أخرى من المفردات التي تستحضر فكرة مرور الزمن وانتهاء الصلاحية، وبالتالي الموت بشكل غير مباشر، مثل «صدأ، عفن».. ولا يخفى على المتلقي الصلة الوثيقة بين الموت والدم والعنف في «أراقوا دمَكم».
في هذا المقطع بالذات، تدعم علامات الترقيم أغراض الشاعر وتسعى لترسيخ مفهومه للموت والحياة في ذهن المتلقي.
وتخلص إلى القول بعد دراسة القصيدة كاملة
تشهد قصيدة «مشهد النيلي» بشكل عام والمقاطع التي وقع اختياري عليها للدراسة في إطار هذا البحث بشكل خاص حضوراً مكثفاً لحقلي الحياة والموت المتناحرين اللذين يحتلان أمكنة مؤاتية مادياً ومعنوياً، وأمكنة معادية مادياً ومعنوياً، وأمكنة مؤاتية مادياً ومعادية معنوياً.. ويستخدم الشاعر جوزف حرب كل الوسائل الممكنة لإقناع المتلقي بالالتحاق به على ضفة الحياة المتجددة والكف عن التمسك بالماضي وهجر كل ما من شأنه أن يدعو للموت والركود والاستكانة.. وتتجلى هذه الوسائل بالاستخدام المركز للمفردات الحركية التي تدعم موقع الشاعر المتمسك باستمرارية الحياة وعجلتها الدائرة (تدور، الريح، تحف، غداً، يصبح، أطول، الطير، تسافر نحو الآتي، وصول، المشتعل، دم الآتي، سيسيرون أمام قوافلكم، سيعطون، ارموا، لنقطع، نبلغ، نعبر، إلخ)، والمفردات اللاحركية التي تظهر بجلاء حالة الركود عند الطرف الآخر (تنتظرون، البوم، جلوس، المقابر، صدأ، عفن، مقابر موتاكم، القبر، منتظر، ضريح الموتى، رطوبة، عجوز، أكفان الموتى، السجون، مستنقعات، الليل، طحلب، إلخ). كما يفاجئ الشاعر المتلقي بالخروج عن المألوف باستخدامه بعض المفردات الحركية لدعم فكرة الركود مثل (نبت النوم عشباً عليهم، إلخ).
وإذ يأخذ الموت حيزاً واسعاً بصفته رمزاً من رموز الركود فإننا نجد أن جوزف حرب يتأرجح بين التعبير عنه بشكل ملطف (من رحلوا) وبشكل فظ ومباشر (مقابر، موتاكم، ضريح الموتى، ميت، القبر، مقبرة، أكفان الموتى، إلخ).. ونراه في بعض الأحيان ينتقل بالموت من فداحته كشأن خاص (مقابر موتاكم) إلى فداحته كشأن عام (مقابر ماضيكم).
وتلعب مفردات الخوف دوراً مكثفاً في تسليط الضوء على وحشة الوضع الراهن وعدم مقبوليته (المجهول الموحش، مظلمة، مقابر، موتاكم، ضريح الموتى، ميت، القبر، مقبرة، السجون، مقصلة الأمس، الكهوف، الليل، سواد، البوم).. وفي المقابل، هناك المفردات التي تستشرف الأمل وتدعو المتلقي إلى تبني موقف الشاعر من الحياة (امرأة، الأفق، متفتحة كتويجات، خاطفة الخصر كومض البرق).
وبين هذا وذاك، يطل البوم برأسه على النص من جذور ثقافة تخشاه وتتحاشى رؤيته بل وتحتقره لأنها تعتبره أحد أبرز رموز التطير، إن لم نقل أبرزها على الإطلاق.. فهو نذير الشؤم، وهو الجاثم الراكد فوق الخراب، وهو صديق المقابر، وهو طائر الليل الناعق ورفيق عتمته، وهو المحدق بعينين دائريتين ثابتتين مخيفتين.. وعليه، هو الأجدر بأن يكون أحد أهم المحاور الارتكازية التي تدعم بقوة حضور الأماكن المعادية في النص وتعمل على بلورة هذا الصراع الدرامي بين نقيضي الحياة، ببعدها الحركي التجددي، والموت، ببعده الراكد اللامتغير.
العدد 1133 – 21-2-2023