الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
نشر المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين والكاتب الفرنسي ميشيل بوتيل والناشر موريس نادو في صحيفة لو موند الفرنسية نصاً بعنوان «الكتاب الذي يواجه فخ التسليع» وشبهوا الكتاب الإلكتروني بـ (حبة البندورة الفاسدة) الموجودة في المحال التجارية فهي لا تشبه البندورة السابقة بالشكل ولا بالطعم. وبالنسبة لتلك النخب المهتمة بالكتاب «لن يصبح ملف بيانات الكمبيوتر الذي يتم تنزيله على جهاز لوحي كتاباً بالمطلق».
تذكرت هذا النص الذي قرأته منذ مدة ليست بالقريبة على صفحات صحيفة لوموند الفرنسية حينما طرح علينا المسؤول عن الملحق الثقافي ملف الأسبوع، ونتناول فيه الكتاب الرقمي وإمكانية أن يحل محل الكتاب الورقي، وساعدتني التكنولوجيا الرقمية في سهولة الوصول إليه، وتلك من أفضل ميزاتها، طبعاً النص اخترته لأنه يعكس تماماً التجاذبات التي نتأرجح بين طرفيها فيما يتعلق بالتحول نحو الكتاب الإلكتروني أو التمسك بالكتاب المطبوع. واكتفيت في هذه العجالة في اقتطاف الزبدة منه.
وكان أغامبين المتخصص في أعمال والتر بنيامين وهايدجر وكارل شميت قد أشار بالبنان في مقابلة سابقة أجرتها معه قناة Télérama إلى «الأزمة الدائمة للرأسمالية « التي تسعى لأن تفرض على المواطنين إجراءات وتغييرات اجتماعية غير مقبولة. وفي الوقت الحالي يعتبر أغامبين المتحدث باسم «مجموعة 451» المأخوذ اسمها من عنوان رواية راي برادبري (فهرنهايت 451). هذه المجموعة التي تجمع بين صفوفها مثقفين وبائعي كتب وناشرين وقراء عاديين، يوحدهم التوق إلى وقف «آلة التقدم الأعمى» أصدرت بياناً كان مرمى أهدافهم فيه: الكتاب الإلكتروني، الإنترنيت والمجموعات المالية الكبرى و»الدمقرطة الزائفة للثقافة» و «عقلنة السوق» «أن إنتاج الكتب والأدب والشعر بدأ يتفاقر نتيجة خضوعه لمعايير نجاح وهمية، وبالمقابل بدأت تتراجع المكتبات. وصارت قيمة الكتاب تأتي وفق أرقام مبيعاته وليس محتواه، وقريباً سيصبح متعذراً عليك قراءة سوى ما يريدونه- وفق السوق- وفي عصر الرقمنة لن تصبح الكتب سوى «سلع» تفيد في «جني الأرباح». إنه وضع غير مقبول ولا يُحتمل، ولمواجهته ينبغي العثور على (ردود جماعية). هذا ما أفاد به المذكورون ومجموعتهم في مقالهم وفي ردودهم ضمن البيان الذي وقعوا عليه بأسمائهم الحقيقية أو بأسماء وهمية.
وفي البيان الذي نشرته الصحيفة اعتبر المشاركون به أن الكتاب الرقمي هو مجرد «سلعة « لن تحتل البتة مكان «الموضوع» الاجتماعي السياسي والشعري، والذي هو الكتاب مطالبين باعتماد كتاب ورقي متحرر من قيود السوق.
أيمكن أن يكون الكتاب الإلكتروني مجرد (سلعة) لجذب الأرباح؟ تلك كانت الفكرة التي دافعت عنها المجموعة المذكورة. وهؤلاء الذين عبروا عن تعلقهم بشدة بالكتب المطبوعة، لم يرفضوا الكتاب الإلكتروني، كما ولم ينكروا مزاياه. ولكن ووفق تعليق أحدهم فإنهم «يحبون ملمس الورق الحريري والحفيف اللطيف للصفحة حين تقليبها، ولكن للكتاب الرقمي جاذبيته، نظراً لأنه أشبه بالمكتبة المتنقلة معك في جيبك، ويوفر مساحات لا يمكن الاستغناء عنها. بل يرون أنه بالإمكان أن يتعايش الكتاب الورقي والرقمي إلى جانب بعضهم بعضاً بشكل جيد للغاية. ويجيب أحدهم في هذا الخصوص قائلاً «أشتري الكثير من الكتب الإلكترونية أكثر بكثير مما اشتريه من الكتب المطبوعة، لكوني متحمساً ومندفعاً، أحب تنزيل كتاب، في كل مكان وفي أي وقت.. لكن الكتب الجيدة، أقتنيها من الكتب المطبوعة لكي أصفها مثل الكنوز على أرففي، والتي أصبحت أكثر انتقائية الآن»
وتشدد مجموعة 451 في بيانها أن الإنترنيت في العصر الرقمي سيكون مرادفاً «للطفرة الإعلانية واستغلال الأجور وتنوع الاحتكار» وسؤالنا ألم تكن الكتب دائماً «سلعة « تخضع لقيود السوق؟ يرد أحدهم أن الافتقار في الأدب لم يكن مرتبطاً بالمطلق بالرقمي:» هناك ناشرون إلكترونيون ينشرون كتباً جيدة ومكتبات رقمية تسعى لأن تجد الوسائل الأنجع لنشر كتبها» ويرد أحد المعلقين على البيان» أعشق الكتب، رائحة الورق، وحتى- وربما بشكل خاص تلك الورقات الصفراء، ولكنني لا أرفض فكرة الكتاب الرقمي والذي يمكن أن تكون لديه الفرصة لإعادة خلق الكتاب بما في ذلك تضمينه الصور والرسوم المتحركة، ومنها ثلاثية الأبعاد. إنها آفاق جديدة تًفتح لنشر المعرفة.»مع الكتاب الإلكتروني والإنترنيت، تزداد مجموعة متنوعة من الكتب والموضوعات. ويعبر أحدهم عن سعادته كونه قادراً على الوصول إلى ما هو مكتوب في كل مكان، وبجميع اللغات.»بينما يرى أحد أفراد المجموعة» الكتاب الإلكتروني جيداً، يمكنك تنزيل أي كتاب ومن أي مكان خلال بضع ثوان. بينما الذهاب إلى المكتبة، والبحث عبر رفوفها، وطلب النصيحة من أحد المتحمسين، وتبادل بضع كلمات مع شخص غريب، لها خاصية محببة»
ولكن عداءهم هذا للتكنولوجيا الرقمية والحداثة من جميع جوانبها كانت مثاراً للنقد والسخرية على صفحات الويب لعدة أيام. وكانت الردود لا تخلو من المنطق، ولم يجافوا الصواب فيها. على سبيل المثال، انطوى رد أحدهم، ومن العاملين في الشأن الثقافي على حقيقة لا يمكن مغالطتها، وجميعنا ممن تعامل مع هذه التكنولوجيا نعترف بها» إن الانترنيت هو الوسيلة الفضلى حالياً، من أجل توزيع «الكتب الجيدة».أو رد آخر يقول «بالنسبة لك من الواضح أن التكنولوجيا الرقمية تتعارض بشكل مباشر مع الجودة، دون أن نعرف السبب الذي دفعك إلى تشبيه التكنولوجيا الرقمية بالطفرة الإعلانية، واستغلال الأجور وتنوع الاحتكار.. ثمة المئات من المواقع التي أحدثت ثورة خلال بضعة أعوام في نشر المعرفة.. «بينما تختم سيسيل أرينس صاحبة إحدى المكتبات في باريس بأن الكتاب المطبوع والرقمي كلاهما وريث عصارة فكر وخيالات. وتقارن أرينس بين ما يتعرض له الكتاب الرقمي من هجوم حالياً وما تعرض له كتاب الجيب الذي يتراوح سعره بين 1 إلى 2 يورو (نوع من الكتب المنتشرة في فرنسا- أشبه بمختصر للكتاب الأساسي) خلال بداياته الأولى. حيث فرض نفسه، ولم يعد أحد يعترض عليه حالياً.
هل نسير في الاتجاه نحو الرقمنة الكلية للكتاب ؟ حين طرحت مجلة أكسبريس الفرنسية هذا السؤال على الكاتب الإيطالي صاحب كتاب (اسم الوردة) قبل وفاته بفترة قصيرة أجاب ودعمه في إجابته تلك برونو راسين مدير المكتبة الوطنية في فرنسا أن الكتاب المطبوع ما زالت أمامه أيام مزدهرة. «الكتاب لن يموت» هذا كان عنواناً للقاء أجرته معهم المجلة المذكورة. في حين، وخلال نشر روايته (الحرية) بشكل كتاب جيب أعرب الكاتب الأميركي جوناثان فرانزين عن عدم ثقته بالألواح الإلكترونية، ويفضل عليها الكتاب الذي يحمله بين يديه»بإمكاني سكب الماء عليه، وسيبقى على حاله ولسنين طويلة» ويعتبر الكتاب المطبوع بنظره مرادفاً للأبدية وبالتالي يتساءل: هل سيتمتع أحفادنا بالشهية لما هو دائم وثابت؟.
ومن جانبه ينظر الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا نظرة قاتمة إلى الكتاب الرقمي، ولا يتنبأ بنهاية كاملة للكتاب. ولكن يعرب صاحب نوبل في الآداب لعام 2010 عن خشيته في تراجع الفكر النقدي، والذي هو نتاج أفكار احتوى عليها الكتاب المطبوع، وذلك في حال تقدم الكتاب الإلكتروني على المطبوع. ويعرب عن قناعته أن الأدب المخصص حصرياً للشاشات الزرقاء هو أدب سطحي، وموجه للترفيه فحسب. ويدعو للسعي بكل المتاح من أجل عدم موت الكتاب المطبوع. وجاءت أقواله على هامش مشاركته في المؤتمر الدولي للغة الإسبانية التي شهدت نقاشات خلالها حول التحديات التي فرضها التطور التكنولوجي الحديث على مستقبل الكتاب المطبوع… إنها مشكلة جديدة يطرحها التحول الكبير الذي أحدثه تطور التقنيات الجديدة للكتب والثقافة بشكل عام.
بالتأكيد، نحن من اعتدنا منذ صغرنا، على ضم الكتاب بيدينا بحنو شديد ندعه ينام معنا تحت وسادتنا لن نختار عليه الإلكتروني مطلقاً. ولكن مع جيل سيطرت عليه الأجهزة التكنولوجية الرقمية، هل من السهل علينا إقناعه أن الكتاب المطبوع أجدى لك مما يحتويه جهازك؟؟؟
العدد 1136 – 14-3-2023