الثورة – هفاف ميهوب:
في زمن الموتِ الذي قادنا إليه أعداء الحياة والجمال والمحبة والإنسانية.. زمنُ الحقد والتآمر والقتل، والحصار والانهيار والأوبئة والزلزلة واللاعقل.. في هكذا زمن، أكثر ما تتأثّر بالويلِ مفردات المبدعين.. المفرداتُ التي باتت أشبه بصلاةٍ تشيّع الحياة وإنسانها، إلى الموتِ الفجائي الأليم..
نعم، هذا ما بات عليه حال مفردات المبدعين، وهو ما يلاحظه كلّ من يقرأ عناوين إصداراتهم، أو مضامينها، أو حتى مقالاتهم أو منشوراتهم..
هذا ما بات عليه حال مفرداتِ الشّعر.. خلعت فرحها وتسربلت بحزنها ويأسها ووجعها.. نزفت وجيبَ روحها، كما نزفت قصيدة الشاعر “سامر الخطيب” في بوحها: /تحت الركامِ هواجسٌ لا تنتهي/ مدنٌ تفكّر في اقتلاعِ جذورها/ وطنٌ يفتّش عن يديهِ وأمّة/تخفي أصابعها وكلّ سطورها
تحت الركامِ مآذنٌ لطفولةٍ /صلّتْ لتخرجَ من ظلامِ حضورها/ كفنٌ تنهّد من حريرِ جراحنا/ وأتى ليسألَ عينه عن نورها
تحت الركامِ تقامُ ألف مدينةٍ /للحزنِ قد هدمتْ جميع قصورها/ تحت الركامِ هناك ضوءٌ خافتٌ/ ويدٌ تفتّشُ عن مقامِ شعورها
تحت الركامِ تراكمتْ لحظاتنا /الثكلى بكلّ غيابها وظهورها/ وتنهّد الموتُ القريبُ للحظةٍ/ والريحُ تستدعي جميع نسورها/..
كلّ هذا، لم يمنعه من بثّّ الأمل في القصيدة لطالما، هي ابنة أرضها، والأرض فيض حبرها.. لم يمنعه من جعلها مسكونة بالحياة والحبّ، رغم لحظاتِ الألم التي تغمرها فتحيلها إلى صدى لصرخاتِ القلب:
/خذني لأستلّ الدموعَ وأمضي/ موتٌ خفيّ في جوارحِ أرضي/ خذني إلى موتٍ قريبٍ من هنا/ ما دمتُ أبحثُ عن بقيةِ نبضي/ حزني ولاية أضلع أنبتّها/ لما اختفتْ منها نوافل فرضي/ كلّي يموتُ وليس كلّي ميّتاً/ لكنه متأثّرٌ من بعضي/..
هذا عن مفردات القصيدة لدى الشاعر “الخطيب”، أما عن عناوين بعضها، فيتدلّى الألم فيها “من دموعِ دمي” و من “موشور زلزالي” وأيضاً “من جانبِ الأوجاع” وغير ذلك من القصائد.
هذا ما بات عليه أيضاً، حال مفردات قصائد “ريم البياتي”.. الشاعرة المتفرّدة في مواجهاتها ودفاعها عن القضايا الإنسانية والوطنيّة والأخلاقية، والدؤوبة على مواكبة كلّ وجع يصيب وطنها، وبقوّة معانيها وصرخة حنجرتها:
لم نكتفِ/ وكأنما الحيطان ضاقت بالشقاءِ/ وقرّرت أن تختفي.. لم نكتفِ/ من موتنا العبثي والسجّانُ والقرصان/ والجوع الوفي/ فاستنكرت تلك التي مادتْ بنا/ ألا تكونَ شريكة في موتنا/ أو تحتفي..
مفرداتُ “البياتي” نازفة، لكنها تأبى إلا أن تحيي الحياة في عالمٍ بات لديها أشبه بـ “بريد الموت”.. تأبى أيضاً، إلا أن تكون مفرداتها الحزينة، جريئة في إطلاق الصوت:
/أيا قابيلُ يا ابن الموت/ صارَ الموتُ لعبتَنا/ غدونا ندفع الأقمارَ بالأقمارِ/ كي ترتاحَ بعضَ الوقتِ/ ثم تعود/ حينَ يصيرُ ظلُّ الظهرِ/ عاموداً على دَمِنا..
أيا ابنَ الموتِ/ قلْ للموتِ أنْ يأتي/ لنلقمَهُ وصايانا/ فقدْ ضاعَتْ ملامِحُهُ على أعتابِ بَرزَخِنا/ جعلناهُ حماماً ينقلُ الأخبارَ/ بينَ اللهِ، والشهداءِ/ بينَ دموعِنا والملحِ والبُشرى/ وبينَ عرائسِ الفجرِ المخضّبِ/ حِنَّةَ العُشّاقِ/ بينَ الكُحلِ والأحداق..
كثرٌ هم الشعراء الذين بات حال قصائدهم، كحال قصائد “البياتي” و الخطيب”.. القصائد التي أفقدتها الكوارث المتتالية فرحها، فنزفت مفردات ويلاتها.. غاب الفرح عنها، والأمل باقٍ لا يغيب.