ساراماغو يروي الوجود البشري العبثي والهش؟

الملحق الثقافي – دلال إبراهيم:

إذا!! هي مغامرة عندما قرر الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو صاحب رواية (العمى) أن يُجرب حظه في حقل الرواية الكوميدية – النوع الروائي العسير والذي تجنبه كبار كتاب العالم- ولو ضحى في سبيل ذلك بسمعته الحسنة التي يحظى بها ككاتب جاد ملتزم، وكاسم مضمون لا يُنتج إلا الروائع الأدبية. «مسيرة الفيل» تلك الرواية العابقة في نهاية الأمر بالمرارة رغم المناخ الساخر الذي يهيمن عليها منذ البداية. حين باشر بها ساراماغو كان يعيش سنواته الأخيرة متوجاً بجائزة نوبل للآداب التي نالها عام 1998 عن مجمل أعماله التي كان ينتجها بغزارة، غزارة تعبيره عن مواقفه السياسية التقدمية واليسارية التي لم يكن ليتردد في التعبير عنها مثيراً غضب كل القوى الفاشية في العالم، ولا سيما الأوساط الصهيونية في إسرائيل وغيرها التي دائماً ما ناصبته العداء بسبب وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية، التي جعل من نفسه خير المدافعين عنها في العالم. ويقول جوزيه ساراماغو، إن فكرة رواية «مسيرة الفيل» راودته كثيرًا عندما زار النمسا للمرة الأولى ورأى صورة الفيل.
تتناول الرواية، بأسلوب ساراماغو المعروف، أوروبا بكثير من السخرية والتهكم، ويسخر من السياسيين ورجال الدين والنفاق فى أوروبا خلال تلك الفترة. نعثر فيها على ذلك القدر الهائل من تصفية الحسابات مع السياسة ومع التاريخ وبشكل خاص مع الكنيسة… وهذا علاوة عن تصفية الحساب مع الخواء الفكري لدى البشر وافتقارهم إلى الإحساس بالمسؤولية انطلاقاً من العبثية الطاغية على تصرفاتهم، وهي عبثية من المستحيل العثور عليها في عالم الحيوان. ويتحدث ساراماغوعن الحيوان هنا ليس فقط لأن حيواناً معيناً يشغل عنوان الرواية، بل كذلك لأن هذه الرواية تدور بأكملها عما أصاب هذا الحيوان من آلام على أيدي البشر.
طبعاً لسنا ندري شيئاً عما كان يعتمل في ذهن الفيل، وساراماغو لم يدخل في تفاصيل توقعات ذلك الكائن الذي بُذلت في سبيله كل تلك المشاق. غير أن ساراموغو كان يعرف، في المقابل، الكثير عن الحمق البشري وعبثية الشرط الإنساني، ومن هنا لن نجده متعجباً على الإطلاق لما سوف يحدث بعد ذلك، إذ بعد أن يصل الموكب الأرشيدوقي بأمان إلى فيينا ويحدَّد للفيل وصاحبه مكان هادئ في الحديقة المنشودة، يحدث ما لم يكن متوقعاً طوال الصفحات الكثيرة التي كانت قد قرئت من الرواية. ستحل اللحظة الحاسمة، لحظة النهاية للرواية وللفيل نفسه: فبعد كل التعب والمخاطر وفي اللحظة التي يموت الفيل متأثراً بما لاقاه ولكن أيضاً بنوع من إهمال عومل به بعد فرحة استقراره، هنا يتفتق ذهن موظفي القصر عن فكرة جهنمية، حيث يبادرون إلى تقطيع قوائم الفيل ليصنعوا منها مشاجب للمظلات تثبت عند أبواب القصر على سبيل الزينة. وهو الأمر الذي علق عليه ساراماغو ذو الستة والثمانين سنة عند صدور الرواية بقوله «إنه العبث في أوضح تجلياته، عبث السلطة وسخافاتها. العبث الكامن في خواء الحياة التي نعيشها نحن الذين نعيش بكل غرور وكبرياء وجشع وطموحات، لينتهي بنا الأمر إلى أقل من مشاجب زينة تعلق عليها المظلات ليس في القصور ولكن في أي مكان على الإطلاق…».
تتبع رواية «مسيرة الفيل» والتي تستند إلى حقيقة تاريخية تحتفظ فيها أرشيفات الدول الأوروبية، الرواية التي وصفها المخرج ميريلس، وهو الذي حول رواية كاتبنا (العمى) إلى فيلم سينمائي بأنها «كوميديا عبقرية تتناول سذاجة النّوع البشريّ» رحلة الفيل الهندي «سولومون» الذي أهداه الملك البرتغالي جواو الثالث وزوجته كاثرين في عام 1551 إلى ولي عهد النمسا الأرشيدوق مكسيميلياني الثاني بمناسبة زواجه. يقول ساراماغو: «تسع وتسعون بالمئة من الرواية عبارة عن خيال محض. لقد كنت مفتونًا بفكرة أن رحلة الفيل هي كناية عن الحياة، كلنا يعرف أنّه سيموت، لكن لا أحد منّا يعرف ظروف موته». كان قد كتب نحو أربعين صفحة عندما نقل إلى المستشفى، ولم يتوانَ عن استئناف الكتابة فور عودته منها. يقول:»ما أجده غريبًا ومستهجنًا هو وجود الكثير من الكوميديا في هذا الكتاب. إنّه يجعل القارئ يضحك. لا أحد سيصدق كيف كان شعوري أثناء الكتابة.» وفي مناسبة أخرى يقول فيها «أنا لا أرى قشور الحضارة، إنما المجتمع بما هو عليه في الحقيقة».
خلال الرحلة التي يقود فيها حشد كبير الفيل مع مرافقه من البرتغال إلى إسبانيا، ثم من إسبانيا إلى إيطاليا للوصول أخيرًا إلى فيينا. مروراً بأراض لم تطأها أقدام بشر، كان فيها سولومون الفيل وحده البطل الحقيقي لهذه الرواية، وليصبح رمزاً ودليلاً لأوروبا التي كانت فريسة للصراعات وانتشار محاكم التفتيش. يكشف فيها ساراماغو بأسلوب تهكمي المجمعات المسكونية المغلفة بالتعصب الديني، والصراع بين الكنيسة البابوية والانشقاق الإصلاحي البروتستانتي، وكذلك ظهور محاكم التفتيش، والسذاجة من الحشود. وكأن ساراماغو عثر على فرصته الذهبية في الوصول بحكايته إلى ذروة تمكنه من تصفية حساباته مع السياسة كما مع الكنيسة.
وفي الختام، نقتبس أروع ما كتبته الكاتبة فرانسوا بارتميلي في صحيفة لوموند ديبلوماتيك عن الرواية «إنها تأثير الفكاهة المشوبة بالأذى: إنها في شخصيات صغيرة جدًا ومتواضعة، تختلط في نفس التدفق أحداث ومغامرات كبيرة، وشخصيات رائعة وعامة الناس، وأفعال بشرية بائسة ومظاهر رائعة للطبيعة، ومناظر طبيعية، وحيوانات، وأسئلة وأجوبة في كثير من الأحيان مرتبطة ببعضها بعضا دون علامات ترقيم، وضعها خوسيه ساراماغو في هذه الرواية التي يبدو أنها تحتوي على «كل الأشياء في الكون».
فمن أجل «التخفيف من آثار الوعظ الديني»، لا تتردد السلطات الكنسية في اختلاق معجزات كاذبة. وبسرور يروي المؤلف – وهو نفسه تعرض للهجوم مؤخرًا من نفس الكنيسة – كيف جاء كاهن رعية بازيليك القديس أنتوني في بادوفا يسأل بوثرو عما إذا كان بإمكانه جعل الفيل يركع. «وصل إلى باب البازيليك، أمام حشد من الشهود الذين سيشهدون على المعجزة في كل الأوقات القادمة. ومن خلال نقرة خفيفة على أذنه اليمنى يطيع الفيل الأوامر ويثني ركبتيه، وليس واحدة، وهو ما كان من شأنه أن يرضي بالفعل الكاهن الذي جاء لتلبية الطلب في الوقت الذي يعتبر فيه الاثنين خاضعين لمشيئة الله في السماء، ولرجال الدين- الذين يعتبرون أنفسهم ممثليه – على الأرض.
إنه كمن يدعونا إلى اتخاذ المزيد من الحيطة والانتباه إلى كل تلك الخدع، ومخططات الساسة لزيادة مجدهم، والتلاعب بالشعوب التي سيطلقها القادة العسكريون في الحرب من خلال دغدغة المشاعر الوطنية. هي دعوة لنا للتفكير لما يمثل خطراً على اليوم كما الأمس المتمثل في: التعايش بين البشر.

العدد 1137 – 21/3/2023

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة