رشا سلوم:
تشكل مجلة جسور مادة ثقافية وفكرية مهمة جداً تقدم كل فترة زاداً معرفياً متميزاً، وتضع على طاولة النقاش قضية ما من صميم الترجمة، وتحتفي بشخصية إبداعية عالمية تقدم مجموعة دراسات وحوارات حولها.
في العدد الجديد من مجلة جسور تناقش الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الكثير من القضايا المهمة في عملية الترجمة، وتقول:
(يعدّ مترجم الخليفة المأمون،حنين بن اسحق العبادي،عميد المترجمين إلى العربية بلا منازع، أغنى وأتباعه المكتبة العربية بنفائس الكتب المترجمة التي نقلوها عن المخطوطات اليونانية والفارسية في شتى علوم الطب والفلك والرياضيات والموسيقى والفلسفة.
خرج حنين بن اسحق عن منهج الترجمة الحرفية، الذي كان سائداً في عصره، ووضع منهجاً للترجمة نهى فيه عن الترجمة كلمة بكلمة، وأكد ضرورة التزام الدقة والأمانة في نقل المعنى، وشدّد على أهمية مراعاة خصائص اللغة الهدف، وعمقها المعرفي والثقافي، وعلى مراعاة سلاسة اللغة، وتأصيل النص المترجم بما لا يعوق الفهم، ولا يشعر القارئ بأنه أمام منتج هجين.
ينطبق هذا، أيضاً، على المعايير أو المبادئ الخمسة التي أعلنها إتين دولي Etienne Dolet شهيد الترجمة في عصر النهضة في أوروبا، وسعى من خلالها إلى تأطير عمل المترجم، تتلخص تلك المبادئ بالآتي: على المترجم أن يفهم المعنى المراد فهماً عميقاً، وأن يكون محيطاً بموضوع الكاتب وأغراضه، وإلا فإن ترجمته ستأتي ناقصة عقيمة.
مضت الأيام وتطورت العلوم الإنسانية عموماً، واللسانية اللغوية النقدية على وجه الخصوص، وتعدّدت نظريات الترجمة وتنوّعت مشاربها ومنهجياتها، وبات يُنظر إلى تلك الشروط اليوم على أنها عامة، وهذا حق لا مراء فيه، لكنّها ظلّت لازمة مُلزمة، ترسّخت في الممارسات المعاصرة، وباتت تحصيل حاصل، فهل هي كذلك فعلاً على أرض الواقع؟ بعض ما نقرأه اليوم من ترجمات يشي بغير ذلك.
إننا نقع اليوم على كتب مغرقة في التخصص تصدّى لترجمتها مترجمون كانوا أشبه بمن يخوض غمار معركة غير مؤهلين لها؛ يقاتلون بأسلحة خشبية لا بريق لها ولا مضاء، ولو أن الخسارة تقتصر على جهود مترجم تذهب هباءً منثوراً، ومالٍ يهدر كونه يُنفق بلا جدوى ولا مردود معرفي، لهان الأمر على صعوبته؛ إلا أنّ الخسائر الناجمة عن أعمال نُشِرت في العام 2022 ولم يُلتزم فيها بالمبادئ الآنفة الذكر قد تتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر وأعمق أثراً، فتنفِّر القارئ من متابعة الموضوع والتعمق فيه، وتسوِّق لمعلومات وأفكار مغلوطة، وتشوّه ما احتواه الأصل من علم أو فكر، وترسِّخ قناعات لا تمت إلى الحقيقة بصلة، أو تحرف اللغة الهدف عن معاييرها بأن تدخِل إليها الهجين من الألفاظ والأساليب ممّا ينافي الأصول اللغوية ويمجّه الذوق السليم، وكأننا بالمترجم يعمل ما في وسعه ليقحم النص المصدر في اللغة الهدف ويجعله يستقر في لغة القارئ، غير مدرك أنه يشوّه الأصل والهدف على حد سواء، بينما الأحرى به أن ينقل القارئ إلى عالم الكاتب ولغته وثقافته.
الشروط العامة الأساسية للترجمة السليمة باتت أقرب معرفة، ولا يجوز لأي جهة معنية، تنشر ترجمات، ولاسيما العلمية التخصصية منها، أن تتهاون فيها.
أما شخصية العدد فكانت الكاتبة مايا أنجيلو التي حققت حضوراً عالمياً، ونالت شهرة واسعة وهي شاعرة أميركية لها أكثر من تسع مجموعات شعرية ونالت تقديراً عالمياً.
وفي العدد من جسور العديد من المواد المترجمة التي كما أسلفنا تقدم زاداً معرفياً، وتشكل نافذة على ثقافات العالم.