سعاد زاهر:
الكاميرا الطائرة بين المنازل حين تستقر على حي شعبي في بيروت، تعطيك ملمحاً بصرياً خاصاً بمسلسل على وشك ترك بصمته الخاصة.
منذ بداية مسلسل «النار بالنار» للمخرج المبدع محمد عبد العزيز، يتضح اشتغاله على نص رامي كوسا، بطريقة مغايرة كي تظهر الشخصيات حياتية، قريبة، محببة، كأنها تمشي بالقرب منا.
عن نص إشكالي غرق «عبد العزيز» في لغة كاميرا واقعية بالكاد نشعر بها، كأننا نتلصص معها على تلك الشخصيات المصنوعة بعناية.
بالتأكيد يأتي تميز العمل، ليس فقط من لغته وهويته البصرية الخاصة، بل من طرحه محاور درامية تعالج للمرة الأولى «إشكالية العلاقة بين السوريين واللبنانيين بمختلف تفصيلاتها بجرأة تحسب للعمل.
يرتكز العمل على شخصية مريم (كاريس بشار) ، بحيث نراها محركاً للأحدث حتى في غيابها كما حصل حين قررت الهرب والسفر بطريقة غير شرعية إلى أوروبا، مريم القادمة من دمشق بطريقة غير شرعية، تفقد كل أوراقها لتصبح أسيرة الظروف تسيرها كيفما شاءت، وهي تعارك بطريقتها الخاصة، كأنها «قشة في مهب الريح».
أينما اتجهت هناك عقبة ما تظهر في وجهها، ويزادا الأمر تعقيداً بسبب طبيعة سكان الحي، الذي يحكمه بشكل من الأشكال قانون المرابي عمران يؤدي دوره (الفنان عابد فهد) لا يترك فرصة إلا ويلدع بها سكان الحي، مستغلاً حاجتهم المادية.
من الواضح أن كاريس بشار اشتغلت على أداء شخصيتها بطريقة تحكمها الحالة الجوانية والخارجية، ولمحة الانكسار التي لا تفارق محياها، تارة تهدأ وتترك مصيرها إلى الأقدار كما فعلت حين كانت تنتظر المركب وهي تتبلع بقايا علبة سردين، وتارة أخرى سرعان ما تنتفض في محاولة منها للحد من خناق المعاناة، كما فعلت في الحلقة (20) مع عمران القابع في الشارع بانتظارها…!
في مختلف تقلباتها تمكنت الفنانة كاريس بشار من تقديم شخصية مضبوطة الأداء، أمسكت بمختلف تحولات وتقلبات الشخصية لتصنع أحد أهم أدوارها.
المشاهد التي كانت تجمع بين عمران ومريم سرعان ما كنا نشعر أننا أمام حالة أدائية مهمة برز فيها ممسكاً بالشخصية، اختار حالة شكلانية تلائمها، ويضبط انفعالات الشخصية وسلوكها، ويتحكم في طبقة صوته، ويزداد الأمر متعة حين ينضم إلى الثنائي الفنان اللبناني جورج خباز بدور الموسيقي عزيز، لنعيش معه في نفس المنحى الأدائي.
في لحظة كأننا أمام فريقين الفريق السوري بمختلف نجومه جمال العلي بدور أبو رضا التي اختار لها كاراكتر مختلف، بارود (تيم عزيز) ابن الحواري الدمشقية، رمته الأقدار الى هذا الحي البيروتي ليبرز بأداء عفوي يظهر عن موهبة لافتة.
في الفريق اللبناني عدا عن شخصية عزيز من الشخصيات اللافتة شخصية جميل التي أداها طارق تميم أظهرت مقدرته التمثيلية التي اختلفت عن كل ما قدمه، زينة مكي، أتقنت دورها السهل الممتنع.
في لحظات كثيرة كنا نشعر أننا أمام مباراة أدائية لاهم لها سوى إمتاع المشاهد.
اعتمدت رؤية المخرج محمد عبد العزيز البصرية على العناية بالتفاصيل الواقعية، حتى إنه اهتم بأدقها كحال القهوة التي تتوسط الحي، ولكنها لم تكن محور الأحداث، بل كأن من يرتادها متفرجاً على الأحدث، أو متلصصاً على أحداث شخصيات الحي الرئيسة، وعندما يحاول أحد ما دفعهم للمشاركة في الحدث غالباً ما يكون هذا الأمر عبارة عن مشكلة، كما حدث حين هجوم الشيخ زكريا وجماعته، أو عندما حاول أبو رضا التطاول على عزيز.
باستثناء شخصية عزيز تبدو الشخصيات مستسلمة لظرفها، وتالياً ضعيفة، كحال جميل لا نكتشف أن لديه دوافع أو خفايا يمشي كيفما اتفق، مريم وعزيز يتفقان في ملمح الشك، لكن كل بأسلوب مختلف، بينما عزيز يحاول طوال الوقت أن يتحقق من شكوكه واقعياً، إلا أن مريم تحاول الهرب منها، ومسايرتها كما تفعل مع عمران رغم عدم قناعتها به.
لعل أهم ما قام به المخرج امتلاكه أدوات جعلته ينجح في تصوير ما يعتمل داخل الشخصيات من مشاعر وانفعالات وإدارتهم بما يمكنهم من التعبير بمختلف حواسهم، فيطورون المشاهد معهم بين خفايا الحكايا وتعقيدات الحياة، التي يحتضنها هذا الحي الشعبي.
حتى إن حركة الكاميرا المتسارعة بداية من خلال «طائرة الدرون» تختفي سرعتها كلياً ونحن نتابع هدوء المشاهد كان الكاميرا اختفت ونحن نتابع فعلاً تلك الشخصيات التي بتنا نعرفها ونفهمها جيداً.
اعتمد المخرج على عناصر بعيدة كلياً عن الحالة العاطفية التي عادة يستغلها المخرج كي يجذب المشاهد، هنا دوافع الشخصيات وعراكها غالباً مع الآخر، باستثناء شخصية مريم التي ظهرت في مواقف عددية تتعارك من ذاتها، وقناعاتها، في موقف ذهابها إلى عند الدكتورة تفيدة لملاقاة رجل مسن، أو عندما تساير عمران رغم أنها لا تحبه، حينها نرى مدى اندفاع قناعاتها إلى الواجهة ومن ثم تعود إلى ركنها.
ربما أجمل ما في العمل تلك الكاميرا الهادئة التي لا نشعر بها، بل تمنحنا عيناً سحرية لنكون معهم في الحي…مسلسل « النار بالنار» ورطنا في طقس مشاهدة افتقدناه منذ زمن طويل، سنشتاق لكل تلك اللمعة التي تمكن العمل من خلقها في مجرد حي بسيط يغص بمشكلات لانهائية…!