أديب مخزوم
ينطلق الفنان بسام الحجلي، في معرضه الأخير، بصالة الشعب، والذي أقامه تحت عنوان 🙁 عوالم ) من التشخيص التبسيطي والتعبيري، الذي يتداخل مع خلفيات اللوحة التجريدية، حيث يحتفظ في لوحاته التشكيلية ( بقياساتها المختلفة ) بروحية العناصر ( وخاصة الطيور والأغصان والزهور والعناصر الأخرى ) ويتحرر من ثوابت ومرتكزات النزعة التصويرية الواقعية، التي تهتم بصياغة التفاصيل الدقيقة وتدرجات الظل والنور والنسب، وغير ذلك من المقاييس الأكاديمية الصحيحة، التي أتقنها قبل الإنطلاق في رحاب التشكيل الحديث، والعمل على مساحات بانورامية كبيرة، ميّزت معرضه الجديد .
وفي لوحاته يبدو أكثر تحكماً بإبراز تداخلات حركات اللون وإبراز إضاءاته، مع الإبقاء على التأليف العفوي والعقلاني بآن واحد . فهو يختصر الأشكال والعناصر ويجعلها متداخلة مع لمسات اللون التجريدي . فالبحث عن مناخات مختصرة لتكاوين الطيور المكبرة والعناصر الأخرى شكل في لوحات بسام الحجلي، هواجس لاختبار الإيقاعات التشكيلية المتداولة في الفن الحديث، مع إعطاء أهمية قصوى للإيقاع اللوني الذي يهدأ حيناً ويعنف حيناً آخر ،حسب درجة الانفعال التي يعيشها أثناء إنجاز اللوحة، ولهذا رأينا التنقل من مساحات صافية وخطوط هادئة في بعض اللوحات، إلى عنف تعبيري في لوحات أخرى .
هو يمتلك القدرة على الاختزال في تكاوينه التعبيرية والرمزية والتجريدية، ضمن معطيات المناخية المشرقية أو الإشراق اللوني في أماكن متفرقة من اللوحة، وهذا يمنح اللوحة بعداً روحياً ( ينتصر فيه الخير على الشر ) مع إعطاء أهمية للجوانب التشكيلية الهندسية، فنجد الحركات الخطّية تأخد أحياناً أشكال الدوائروالأقواس، وفي أكثرية لوحاته يتخطى البنى الهندسية، ويعمل على كسر أناقة المساحة، ويبتعد بها عن الإبهار الصالوني والتزييني والتجاري .
وهذا يعني أنه لا يتوقف عند حدود معينة في معالجة المادة والمساحة، وإنما ينتقل من معالجة إلى أخرى، ضمن روح فنية واحدة، ويصل أحياناً إلى ترك اللون يسيل إلى أسفل المساحة، وعلى خلاف ذلك يغلق مساحات اللون في لوحات أخرى، وهذا يساعد في اكتشاف حساسيات بصرية مختلفة ومتفاوتة .
وهوبذلك يعمل على إيجاد نوع من الموازنة والمواءمة بين الجانب التعبيري المتمثل بتبسيط الأشكال وإبراز انفعالية اللون، وبين الجانب التجريدي الذي نجده في الخلفيات، ويعمل من خلاله على معالجة المساحات، وإيجاد إيقاعات بصرية اهتزازية في اللوحة للوصول إلى إيقاعات اللون أو ما يسمى بموسيقا اللوحة وتقاسيمها المرئية المسموعة بالعين .
بسام الحجلي على هذا الأساس يظهر حركة اللون العفوي، المتدرج بين الإغماق والتفتيح، كعنصر بصري أساسي في اللوحة، إذ يبدو موزعاً على كامل مساحة اللوحة، إلا أن هذه الحركة لا تنحصر بما هو تجريدي -كما أشرنا- إنما ترتكز إلى ما هو تعبيري ورمزي. وكلّ ذلك يعمل لإبراز حركات لونية عريضة تضرب المساحة بعنف ارتجالي، مما يذكرنا بجانب من التشكيل الانفعالي الحركي ( والطيور ترمز إلى اللامكان واللوحة بهذا المعنى تحمل بعداً إنسانياً وكونياً يتخطى حدود الزمان والمكان ويحقق العدالة الإنسانية في العالم أجمع ).
وهذا يعني أنه يطلق العنان لعاطفته ولانفعاليته اللتين تركتا بصمات واضحة على لوحاته ، حيث يستعيد الكثير من الرموز المقروءة في أشكال الطيور التي تذكرنا بالطيور الاسطورية بأحجامها الكبيرة ( ومن ضمنها طائر الفينيق القادر على الانبعاث من تحت الرماد ) ، والعفوية تعطيه المزيد من الحرية في تحريك اللون وصياغة الخطوط ، بحيث تتحول الأشكال والعناصر والرموز إلى ضربات ولمسات ولطخات لونية وحركات خطّية، فيها الكثير من التنويع العاطفي والوجداني والذاتي .
إن قراءة تشكيلية موضوعية لأعمال بسام ،سوف ترسم أمامنا وقبل كلّ شيء إصراره الدائم ،على تقديم لغة تشكيلية واضحة برموزها التعبيرية، رغم تركيزه لإظهار عمق الرؤية البصرية البادية في عفوية اللون وحركته التلقائية.
فالأداء التشكيلي الذي جسده في حالات التكوين والتلوين، أبعده مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، وأدخل المشاهد في إطار الحالة الرمزية والعفوية اللونية ، التي تترك أثرها المباشر في فراغ السطح التصويري.
ومن هذا المنطلق يثير المعرض نقاشاً ثقافياً، بقدر مايكشف عن تموجات المشاعر الفنية والأحاسيس الداخلية، في خطوات بحثه عن إيقاعات تشكيلية بانورامية مكثّفة، كلّ ذلك بلغة فنية بحتة، لاتقع في هاوية الخطاب التقريري والأدبي والسردي ، وإنما تترك لأصداء الحوار التشكيلي البصري ، مساحة من الحرية التعبيرية والفنية والتقنية.