الحكاية باقية ولن تغيب، لكنها في عصر الحداثة اتخذت لها شكلاً جديداً أكثر تشويقاً وإبهاراً عندما ظهرت من خلال الصورة سواء في الأفلام السينمائية أم في الرسوم المتحركة، ومن بعدها في الكتاب الإلكتروني، ومن ثم في الألعاب الإلكترونية.. وهي حكاية الصغار، والكبار على حد سواء.
عالم بات يزخر بالإثارة، والمتعة بعد أن أصبح مجاله واسعاً سمعياً، وبصرياً.. فالحكاية بحد ذاتها، ولو اقتصرت على الكلمة المكتوبة، أو المنطوقة، فهي عالم فاتن يجذب إليه لما فيه من سحر، وإبداع، وخيال، فما بالنا إذا ما أضيفت له الصورة، وكذلك الصوت، والحركة.
صحيح أنه عمل صعب لكن التقنيات الحديثة جعلته ميسراً لتتحول الحكاية بالتالي إلى تجربة مختلفة لم تكن مألوفة وكأن مَنْ يأتي إليها يصبح داخلها، أو أنه أحد أبطالها فلا يعود متلقياً فقط يقرأ فيها، أو يستمع لها، هذا عدا النهايات المفتوحة التي يمكن التغيير في أحداثها التي تؤول إليها القصة ما يجعل من باب الخيال مفتوحاً على مصراعيه بعد أن كان موارباً زمن الحكاية الشفهية، أو المكتوبة فقط.
ظلت الحكاية التقليدية لدهور تمثل شكلاً من أقدم أشكال الأدب الشعبي الذي عرفه الإنسان، وهي تروى كقصة تتضمن أحداثاً خيالية، أو حقيقية، وتستخدم لنقل الحكمة، والموعظة، والعبرة، وتحكى من جيل إلى آخر. ويمكن أن نصِفها بالبساطة، والوضوح إذ تحتوي على عناصر بناء ثابتة تتكرر في كل قصة، مثل الشخصيات الأسطورية، والأحداث العجائبية، وهي ليست أكثر من وسيلة لترسيخ القيم، والأخلاق، والتعاليم الدينية، والثقافية في المجتمع، وللترفيه، والتسلية.
إلا أنها في عصر الحداثة شهدت تطوراً كبيراً في بنيتها الحكائية من حيث الأساليب الجديدة في الأدب والتي تميزت بالتعددية، والتنوع، واستخدام الأساليب اللغوية الجديدة والمبتكرة، والتقنيات التي أفرزها العصر.. ومن بين أهم هذه المميزات للحكاية الجديدة كان التركيز الأكبر على العواطف، والمشاعر، من خلال إعطاء مزيدٍ من الحرية للكاتب للتعبير عن أفكاره وآرائه، كما مشاعره بشكل أكثر دقة، وتعقيداً بآنٍ معاً. وعلى هذا فقد أصبحت الحكاية الحديثة أكثر صعوبة من الأخرى التقليدية في بنائها، إذ يتم التركيز فيها على جوانب مختلفة كالشخصيات، والأحداث، والرموز، والمعاني المخفية، وهذا بدوره ما بات يتطلب من القارئ تركيزاً أكبر بالتالي، وفهماً أعمق للحكاية.
وانطلاقاً مما سبق يمكننا أن نعتبر على سبيل المثال أن (فرانز كافكا)، و(فيرجينيا وولف) هما من بين مَنْ كتبوا في الحكاية الحديثة التي تميزت بالتعقيد الشديد، والتنوع الكبير في الأساليب، والمواضيع. كذلك اعتبرت الواقعية النفسية كواحدة من الأساليب الحديثة التي تم استخدامها في الحكاية في عصر الحداثة، حيث يتم التركيز من خلالها على الوصف الدقيق للشخصيات، والأحداث، والتفاصيل الأخرى الدقيقة التي تعزز الواقعية، وتجعل من الحكاية أكثر تحدياً، وتأثيراً في القارئ هذا الذي أصبح يعيش في قلب الحدث الروائي، أو الحكائي لا خارجه، شأنه شأن التقنيات الحديثة التي تدمج مستخدمها في فضائها الافتراضي ثلاثي الأبعاد، ما يجعل من الحكاية المعاصرة تجربة تفاعلية مثيرة، وممتعة للقارئ.
لقد ساهمت الحكاية في مسيرتها التطورية على مر التاريخ في تحقيق ذلك التوازن بين الواقع النفسي والواقع الحياتي المعيش، وهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى، فبعد أن كانت تستخدم بشكل رئيسي لتوثيق الأحداث التاريخية، والقصص الدينية، بدأت مع تطور الزمن بالتركيز على الجوانب الفلسفية، والنفسية، والاجتماعية، والثقافية للإنسانية جمعاء، وتم استخدامها لتوثيق الحياة اليومية والتعبير عن المشاعر، والعواطف، والأفكار المختلفة، ولتصبح بالتالي أكثر تعقيداً في أساليب القص، وتنوعاً فيما تتناوله من موضوعات، وأكثر ابتكاراً، وإثارة للاهتمام.
وسواء أكانت الحكاية في كتاب الزمن تقليدية، أم حديثة فهي تظل تحمل في طياتها تراثنا الإنساني الثقافي، وإرثنا التاريخي، وتلعب دوراً مهماً في ثقافات الشعوب.
