الملحق الثقافي- وفاء يونس:
لعل أكثر الدراسات قدرة على تشريح مرض الغرب في مركزيته كانت دراسة الدكتور عبد الله إبراهيم الذي يرى الحديث عن المركزية الغربية ليس تَرَفاً فكرياً يروق لهذا المفكر أو ذاك، ولا إنشاء لغوياً فضفاضاً معبّراً عن انفعالات اتجاه ما أحدثته من تأثير في العالم المعاصر خارج المحضن الغربي لها، بل مسؤولية نقدية قصدت بها مشاركة القارئ الأفكار التي شغلت بها طوال ربع قرن، وشأنُ كلِّ حديث يروم الحفر في الظواهر الكبرى، أبدأ بتأصيل المفهوم الإشكالي للمركزية الغربية أخذاً في الحسان، أنها نزعة خلطت الأيديولوجيا بالمعرفة.
يتعذّر تحديد الوقت الذي وُلد فيه مفهومان متلازمان هما: «أوروبا» و«الغرب»، فهما من تمخّضات تلك الحقبة الطويلة والمتقلِّبة، التي يُصطلح عليها بـ «العصر الوسيط»، الحقبة التي طوّرت جملة من العناصر الاجتماعية والدينيّة والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكّل «هويّة» أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة، ظهر إلى العيان مفهوم «الغرب»، وسرعان ما رُكّب من المفهومين المذكورين مفهوم جديد هو «أوروبا الغربية»، وهو مفهوم لم يمتثل للمعنى الجغرافي الذي يوحي به، فقد راهن على المقاصد الثقافية والسياسية والدينيّة، ومن ثَمّ ثبّت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينيّة على أنّها ركائز ثابتة تشكّل أسس هوية الغرب، وغذّى هذا الاختزال ولادة مفهوم حديث ذي طبيعة إشكالية هو «المركزية الغربية».
اقترنت ولادة «العصر الحديث» مع الممارسة الغربية في ميادين المعرفة، والصناعة، والاكتشافات الجغرافية، وبناء مؤسسة الدولة في الوقت الذي جعل مفهوم المركزية الغربية من الغرب عالماً خالداً في تاريخه وثقافته ودوره الحضاري في العالم، مارس إقصاءً منقطع النظير لكلّ ما هو ليس غربياً، دافعاً به إلى خارج الفُلك التاريخي الذي أصبح «الغرب» مركزه، وأباح لنفسه حق استغلاله والسيطرة عليه، وبذلك، اقترنت ولادة «العصر الحديث» مع الممارسة الغربية في ميادين المعرفة، والصناعة، والاكتشافات الجغرافية، وبناء مؤسسة الدولة بركائزها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية.
لقد جرى تأويل العالم على أنه حقل غربي لا يجوز لغير الغربيين الانتفاع بخيراته، وأفضى كلّ ذلك إلى نوع من التمركز حول الذات بوصفها المرجعية الأساسية لتحديد أهمية كلّ شيء وقيمته، وإحالة «الآخر» إلى مكوّن هامشي، لا ينطوي على قيمة بذاته، إلا إذا اندرج في سياق المنظور الذي يتّصل بتصوّرات الذات المتمركزة حول نفسها، هذا من ناحية التاريخ الثقافي والسياسي، أما من ناحية الفرضية التي استقامت عليها المركزية الغربية، فإن كلَّ مركزية لابد أن تقوم على فكرة الاختلاق السردي الخاص لماض مرغوب يُشبع تطلعات آنيّة، ويوافق رغبات قائمة، فهذه سُنن المركزيات، وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطَنع ذاكرة مركزية توافق تلك التطلّعات والحاجات.
استمدّ مفهوم التمركز الغربي مكوّناته من الدلالة المباشرة لـ (Egocentricity)، التي تفترض غلبة وجهة نظر الذات وصوابها، وهي متصلة بعالم الطفولة، إذ تتجلى الأنانية المفرطة التي توافق مرحلة من نموّ الطفل تجعله يركّز العالم في أناه الخاصة، لأن وجدانه لا يتفتح على الآخرين إلا بقدر ما يكون هؤلاء مجموعة من العناصر في أفقه الذاتي، فيصعب عليه أن يفهم الأشياء من غير منظاره الخاص، ولا يُعطي أيّ اعتبار للآخرين واهتماماتهم، الأمر الذي يؤدي إلى أن يختلط لديه الموضوع بالذات، صار الغرب لا يرى العالم إلا بما يرغب هو فيه، ويريده، فيظهر نوع ملتبس من التفكير القائم على الرغبة Wishful thinking، وهو تفكير خطير، يخلع الأهمية على ما يريد، وليس على ما يفيد.
وبالأخذ بهذا التخيل الطفولي عن الذات، صار الغرب مصدراً لمدنيّة جديدة متمركزة حول نفسها، فيما وسم العالم الآخر بالتوحش والهمجية، وأصبح القول بـ «حيّوية أوروبا» و«خمول العالم» شائعاً في العصور الحديثة، فـ«أكاديمية علوم باريس» تؤكّد، في القرن الثامن عشر «أنّ أوروبا هي ما تغيّر، وما يتغيّر، بتقدم معارفنا»، و«كل أجزاء العالم الأخرى هي في الجمود».
برزتْ أوروبا بوصفها مكوِّناً ثقافياً طاغياً، وحيثما شاعت نظمها الفكرية والسياسية والاقتصادية تكون أوروبا، فقد اختُزِل العالم لكي ينطوي تحت شمولها، وانتظم الفتح والكشف والتبشير والاحتلال في سياق فكرة واحدة هي: بناء هوية أوروبا، وتعميم قيمها على العالم، ومن أجل أن يتحقّق يلزم الإجهاز على المكوِّنات الحضارية القائمة في العالم، وإذا تعذّر ذلك فاختزالها إلى أنماط معيقة لعلاقات جديدة تهدف إلى وحدة الإنسان والتاريخ.
نضّد قاموس (تريفو) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، للأوروبيين الخصائص الآتية: «الأوروبيون هم شعوب الأرض الأكثر تهذّباً، والأكثر تمدّناً، والأحسن صُنعاً، يبزّون جميع شعوب سائر العالم في العلوم والفنون، إنهم أكثر بسالة، أكثر فطنة، أكثر كرماً، أكثر نعومة، أكـثر اجتماعية، وأكثـر إنسانية».
فرضت أفكار «السموّ الأوروبي»، وفكرة «امتدادية أوروبا»، وفكرة «أوروبا مركز العالم»، نفسها اعتباراً من القرن الثامن عشر، حيث تصبح أوروبا «الوسيط للتقدم الكوني»، و«السيد المعطاء» الذي ينبغي على العالم أن يكون «معتمداً عليه سياسياً وتكنولوجياً»، كما قال الفيلسوف برتراند رسل، وذلك أنّ ما تهدف إليه الحضارة الغربية، كما ذهب المؤرّخ توينبي، أي «جمع العالم الإنساني كله في مجتمع كبير واحد، والسيطرة على كل شيء فوق هذه الأرض، وفي البحار والأجواء، التي ستصل إليها الإنسانية عن طريق التقنية الغربية الحديثة».
قرّرت المركزية الغربية قولها بالخصوصية المطلقة لتاريخ الغرب، الذي أثمر عن حضارة غنية ومتنوعة، ثمّ تأكيد أنّ المجتمعات الأخرى، التي تريد أن تبلغ درجة التقدم التي وصل إليها الغرب، ليس أمامها إلا الأخذ بالأسباب ذاتها التي أخذ بها الغربيون، وليس أمامها إلا التخلص من خصوصياتها الثقافية، لأن تلك الخصائص هي المسؤولة عن تخلفها، وهي المعيقة لتطورها.
وبهذا لم تقف المركزية الغربية عند حدود تقديم رؤية غربية للعالم، بل تقدمت بمشروع سياسي على صعيد العالم هو: مشروع تجانس الإنسانية المستقبلي من خلال تعميم النموذج الغربي، وخطورة هذا المشروع متأتية من أنه سوّغ التوسع الغربي، واحتلال العالم، وإبادة الحضارات العريقة، وأحياناً إبادة شعوب بأكملها، كما حصل في حالة فتح الأمريكيتين وأستراليا.
وجرى بذل جهد جبّار، طوال القرون الخمسة الأخيرة في معظم أرجاء المعمورة، لزرع بذور النموذج الغربي في كثير من تفاصيل الحياة، وفي الوقت ذاته شهد العالم انهيار نماذج ثقافية لا تحصى، من دون العثور على نموذج كفء يراعي مكونات الهوية الثقافية للأمم غير الغربية.
وأجملُ أثر المركزية الغربية في المجتمعات المعاصرة بالصورة الآتية:
١. لم يقتصر الأمر في المركزية الغربية على إنتاج ذات غربية مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب التاريخية، إنما – وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز- لا بد أن يتأذّى عن ذلك تركيب صور مشوّهة للآخر، وبين الذات الصافية التي تدّعي النقاء المطلق، والآخر الملتبس بالتشوه الثقافي، والديني، والفكري ينتج التمركز أيديولوجيا استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية خاصة بالذات، الغرب مصدر الخير كلّه، وسواه مصدر الشرور كلها.
٢. ما يمور به العالم من تنازعات كبرى مرجعه – في الغالب- الانحباس في تصورات مغلقة عن الذات والآخر، وقد دار جدلٌ طويل حول تفسير تلك التنازعات، أقصد التنازعات التي توجّهها المرويات الكبرى، وانتهى الأمرُ إلى الأخذ بتفسيرين: أولهما صراعُ الحضارات، وثانيهما صراعُ الأصوليات، ومع أن المجتمعات في العصر الحديث طوّرت ما يكفي من أسباب التنازع كالأيديولوجيات المطلقة، والاستبدادِ، والاستغلال، والمصالح، لكن الأمرَ الذي تقترحه هذه المحاضرة، هو أن النزاعات الكبرى، هي نتاجٌ لمركزيات وجدتْ لها دعماً من أطراف التنازع، وفي مقدمتها المركزية الغربية التي فرضت وصاية الغرب على العالم.
٣. أقام التصوّر الذي أنتجته المركزية الغربية للآخر معرفة تخيلية وقع فرضها بالإكراه، وهي معرفة لم تحط بشؤون المجتمعات الإنسانية، فبرز نوع من التمثيل المتناقض الذي اصطنع تمايزاً بين الذات الغربية والآخر الأجنبي، أفضى إلى متوالية من التعارضات تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني، وتخليصه من خموله، وضلاله، وبوهيميته، ووحشيته، وإدراجه في عالم الحق، وتغلغل هذا التصوّر في تضاعيف الخيالات العامة، وتحكّم في توجيه الأفكار وصوغها، وركد تحت أكداس الخطابات، والممارسات، فحَجَبَ إمكانية للبحث في أمر تعديل الصور النمطية عن الآخر.
٤. ترسخ خلال العصر الحديث تصوّر يقول بأن الصواب والحق والقوة والتقدم يتدفق من الغرب باتجاه أركان العالم الأربعة، ولَم يحدث العكس، هنالك تيار عارم ينبع من مكان بعينه، ويروي ظمأ العالم للمعرفة والعدالة والمساواة، ولا يجرؤ أحد بعكس اتجاه هذا التيار، أو تغيير اتجاهه، لكن فحص نتائج ذلك التيار في معظم أرجاء العالم لا تؤكد وجود تلك المعرفة والعدالة والمساواة، امتصت المركزية الغربية إشعاعات العالم، وتركته معتماً.
٥. أنتجت المركزية الغربية خطاباً عنصرياً فحواه تملّك الآخر لدونيته، فلم يضع غير الغربيين في مستوى رتبة الغربيين، بل حجزوا في رتبة التابع، وسعى ذلك الخطاب إلى تثبيت صور راكدة للمجتمعات المستعمَرة، وروّج لفكرة التبعيّة، ومؤدّاها ألاّ سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصليّة إلاّ باستعارة التجربة الغربيّة في التقدّم.
العدد 1149 – 27-6-2023