الثورة- ديب علي حسن:
مازالت تلك الأمسية في ثقافي أبي رمانة تلح علي كلما كان الحديث عن الوطن والغربة حليم بركات كان ضيفاً مكرماً في الأمسية الثقافية هذه ..وعندما تحدث عن مرابع الطفولة في سورية ذكّره الأستاذ الدكتور محمود السيد بطائر الحوم ففاضت عيناه بالدمع وروى كيف رأى طائر الحوم الصغير المهاجر يخر صريعاً بطلقة بندقية
وكان أن حمل أحد كتبه اسمه ( طائر الحوم ).
حليم بركات الذي كتب الاغتراب في الثقافة العربية تحدث عن تجربته الشخصية في بعض فصول هذا الكتاب ..وبدا توقه دفاقاً لأن يكون رحيله في أرض الوطن فيغدو شجرة أو جسراً للغد .
من كتابه الاغتراب في الثقافة العربية نقتطف ما كتبه عن بعض ملامح تجربته هذه يقول بركات :
وإذا كان يجوز أن نتكلم عن التجارب الشخصية أقول بشيء من التردد أن صلتي ومعرفتي بالمجتمع العربي وأحاسيسي بالانتماء إليه تعمقت بعد هجرتي فأصبحت أنظر إليه ككل وليس كمجموعة من الدول الصغيرة المهزومة وأصبح ولائي إليه ككل ربما لا يقل عن ولائي إلى البلد الذي ولدت ونشأت فيه.
في روايتي طائر الحوم وهي رواية _سيرة ذاتية حاولت أن أعبر عن تجربة المنفى في مختلف أبعادها.. في المنفى أجد شجرة الوطن تغرق جذورها عميقاً في داخلي فأتنقل ذهاباً وإياباً ومن خلال التداعي النفسي وعلى أجنحة المخيلة بين الكهولة والطفولة وبين مدينة أميركية هي واشنطن وقرية سورية هي الكفرون كل ذلك في مناخ نفسي تأملي متوتر معاً وفي زمن محدود هو بضعة أيام.
انتقل بين المهجر والوطن كما تنقل السندباد من جزيرة إلى جزيرة وأبحث عن جذوري ضائعاً كيولسيس مستنطقاً التاريخ السحيق كجروح الإنسان ومستعيداً طفولتي متحرراً من متاعب المنفى بل ربما لا أستعيد طفولتي بقدر ما تقتحمني فأتفاجأ بها وأكتشف كيف ولماذا لا أدري أن الضيعة وأناسها وينابيعها وتلالها وأوديتها وطيورها وطرقها وأزهارها وأشواكها وأحزانها وأفراحها شرشت في نفسي.. لا أحد لا شي يقتلعها من نفسي وكلما ذبلت شجرة حياتي نبتت شجرة أخرى من جذورها العميقة العميقة.
وفي المنفى الطوعي أصبحت أسير حنيني إلى الوطن وانشغالاتي بقضاياه وعندما تنصحني الحبيبة بالتحرر من هويتي الذاتية ورواسب الماضي أجيب:الذاتية لا يمكن أما ما تسمينه رواسب فأسميه جذوراً لذلك أحببت شجرة الصفصاف ليس لأنها تبكي وتهبط دموعها إلى النهر فتحدث دوائر تتلاشى في بعضها وليس فقط لأن رؤوس أغصانها المتدلية ترسم أعينا متتابعة على سطح الماء كلما حركها الهواء أحب شجرة الصفصاف لأنها تنكفىء على ذاتها وجذورها كلما كبرت في العمر انحنت أغصاني على جذوري.
الذي يعيش في الخارج يحسد من في الداخل ومن في الداخل يحسد من في الخارج ..ومهما يكن من الأمر يحتاج الكاتب إلى أن يصر على الاحتفاظ بهويته وفي الوقت ذاته أن يكون جريئاً في تفاعله مع الآخر.
وحين أرفض الآخر مهما كان الموقع الذي أشغله إنما أرفضه ليس لأنه مختلف بل لأنه خصم ..ولن أتخلى عن الفسحة الزمنية والمكانية الضرورية للتأمل من دون خوف وخارج الحدود والفرضيات المفروضة منذ الصغر وللتفكير الحر بواقع المجتمع العربي من الخارج والداخل في أن معاً أن نرى الداخل من الخارج والخارج من موقع الداخل ..شرط ضروري لحصول التحرر والإبداع ونصر في هذه الحالة على أن يكون لنا منظور خاص ومنفرد ووعي ذاتي ومعرفة وثيقة بالداخل والخارج معاً .
ويضيف بركات قائلاً :
في المنفى يكاد المغترب أن يتحرر من تفاصيل تراثه الثقافي مهما أراد أن يؤكد هويته يتحرر من انفعالاته اليومية.
من جزئياته ورتابته وتكراره وخلافاته الجزئية لسبب ما ..وينشغل بدلاً من ذلك بجوهر هذا التراث الثقافي فلا تتساوى الأمور في نظره إذ حين تتساوى يبطل أن يكون لأي منها قيمة أو معنى.
ويكون الولع في الغربة ليس بالخلافات بل بالاختلافات ويتحرر المنفي من الخوف فتنبع السلطة من قناعته وتمسكه بمبادئه فلا تفرض عليه من الخارج ويمتلىء قلبه بالحب والحنين والعطش وعلى عكس ما اعتاد عليه في علاقاته بثقافته يسعى إلى أن تنبع الكلمة من الفكرة ..لا الفكرة من الكلمة ..ينظر إلى طفولته فيه وإلى موته في تراب الوطن فيطلع شجرة ويكون موته جسراً.