الثورة – مصطفى المقداد:
لطالما كنا نردد في صغرنا نشيد الجزائر بعد تحريرها من استعمار بغيض استمر قرابة قرن وثلث القرن، سعى خلالها لطمس هويتها وإماتة تراثها وقتل قيمها وقيم مواطنيها ذوي الهمة العالية والنفوس السمحاء والكرم السخي والتضحية الكبيرة والإيثار محمولاً على التواضع والمحبة.
قسماً بالساحقات الماحقات
والدماء الطاهرات الزاكيات،
نحن خضناها حياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
هو قسم مقدس وملزم ومبرور، بالممارسة والسلوك بشهادة سكان الأرض جميعهم بأن هذا الشعب بر بقسمه حين عقد العزم على أن تحيا الجزائر!
وفي سلوك الجزائريين يحضر جوهر هذا القسم المبرور في كل بقعة وصلوها من بقاع الأرض، ليقدموا الدليل الثابت على ثباتهم ونقائهم وطيب سريرتهم، فقبل أكثر من عشر سنوات، وفي شهر البرد الأخير من عام ٢٠١٢ حطت بي الرحال في مدينة شنغهاي الصينية مدعواً للمشاركة في افتتاح أعمال المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي حمل في نهاية أعماله الرئيس شي جين بينغ إلى رئاسته وأمانته العامة في البداية لتبدأ بعدها عملية تولي قيادة الجيش والقوات المسلحة وبعدها رئاسة البلاد في عملية معقدة وطويلة تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر.
كنت في تلك الدعوة واحداً من مجموعة مدعوين كل واحد من دولة عربية إضافة لمدعو من كل من إيران وتركيا، وذلك ضمن تقسيمات وزارة الخارجية الصينية المستضيف الرسمي لنا ضمن مجموعات موزعة على القارات الخمس.
في شنغهاي حيث الشتاء اللطيف، كان لقاؤنا بصحفيين وإعلاميين عرباً يعمل جلهم في مواقع إدارية في وسائل إعلامهم، ينبئون بسلوكهم وتصرفاتهم وأحاديثهم عن مواقعهم في أعلى سلم الهرم الوظيفي والمهني، وتشير ملامحهم لسني عمرهم الذي قضوه في مهنة المتاعب، وكانت عيونهم تسأل عن مدنهم متخذة من فلسطين والقدس منطلقاً تجتمع حولها المواقف وتنطلق من دمشق لتجمع ما تباعد من مسافات بين القاهرة وبغداد والرباط وتحتضن بينها كل العواصم والمدن والحواضر والأرياف العربية، فكانت اللحظات الأولى كفيلة بكسر حاجز البعد لتبني جسوراً كانت موجودة تحت الجلود وكشف عنها التصريح، مجرد التصريح عن الاسم وحده، فلا الأمر يحتاج شروحات ولا مقدمات، فالقادم من اليمن يعرف عمق ليبيا شأنه شأن الجزائري ذي الهامة المرفوعة، يهيم في شاطئ الخليج العربي وبحر العرب وخليج عمان وخليج العقبة مروراً بمضيق هرمز ومضيق باب المندب.
وكان محمد الشريف المستشار الصحفي للرئيس الجزائري السابق أكبرنا عمراً وأكثرنا حيوية لا يضارعه في نشاطه إلا الزميلة لورا باشرحيل، تلك الصحفية السعودية، تعمل في جدة بمجلة تصدر بالإنكليزية، تتحرك كالنحلة بخفة ولطف لا يخفيان على أحد.
ومحمد الشريف الذي نجح في تعلم العربية في العقد الثاني من عمره ضمن حملة التعريب على يد أساتذة ومدرسين من بقية الدول العربية، وخاصة سورية والعراق وفلسطين والأردن، محمد الشريف ذاك ما زال يجد صعوبة في التعبير السياسي فيها، فينطلق بالفرنسية، ليعمل الفاضل الودود صاحب الابتسامة الرقيقة الزميل حسن هرماس على الترجمة الفورية بلغة عربية سليمة من أي لحن أو خلل.
في اليوم الأول من التقائنا رأينا، محمد الشريف الجزائري، وعمر نشابة اللبناني، وأنا، أن نختار زميلنا ماهر الشيخ رئيساً لمجموعتنا يتقدمنا في كل لقاء وينظم حديثنا خلال لقاءاتنا مع المسؤولين الصينيين باعتباره رئيس تحرير صحيفة القدس التي تصدر من القدس فلا خلاف أو مشكلة إزاء فلسطين، قضية العرب المصيرية، فكان ذلك عملاً وحدوياً شعبياً ونقابياً جمعنا كعرب على قرار لا اختلاف بشأنه.
في مقاطعة هانغ سوو دعانا محافظها لعشاء عمل توزع المدعوون على ثلاث طاولات لم يكن نصيبي أن أكون في التوزيع البروتوكولي على الطاولة الرئيسية حيث يجلس المحافظ وثلاثة من مسؤولي المحافظة، فيما يجلس مسؤولون أقل مرتبة على الطاولتين الأُخريين، فيما كانت بطاقة صديقي محمد الشريف على الطاولة الرئيسية إضافة للمدعوين من كل من فلسطين والأردن ومصر وقطر والكويت، فما كان من الشريف إلا أن قام باستبدال بطاقته وجلبها إلى طاولتي ووضعها مكان بطاقتي وقادني إلى الطاولة الرئيسية وأجلسني مكانه السابق مردفاً: أنت سوري قادم من أرض ملتهبة بالعدوان والإرهاب.. أنت صاحب قضية، وحدك من يجب أن يتكلم على الطاولة الرئيسة لتعرض حقيقة ما يحدث في بلدك، أعرف أنك قادر على كشف كل الأكاذيب والرد عليها، هي قضيتك أكثر منا جميعاً وهي فرصتك الكبيرة وأنا أقدم خدمة للحقيقة وأرد بعضاً من ديون كثيرة أحملها لمن علمني الحرف العربي.
وامتد الحديث لساعات ثلاث، كان نصيب سورية جلّها، وكنت محور إدارة النقاش للإجابة على تساؤلات لم يعترض أحد على إجاباتها أبداً، وفي الوداع قبل منتصف الليل صافحني المترجم الصيني وانتحى بي جانباً مهنئاً على حسن عرض قضية ملتبسة وشاكراً لزميلنا الجزائري الذي استبدل مواقع الجلوس، فكانت النتيجة مخالفة لتوقعات الدبلوماسي المرافق للوفد العربي.
وتمضي أيام الزيارة وتكون لحظات الوداع في مطار دبي حارة حد الأمل، وقاسية موضع الفرقة والتجزئة، ومؤلمة أمام الإحساس الفردي بالعجز عن الفاعلية والعمل.
هي علاقات صدق ومودة تجمع ما تباعد من أبناء الأمة وتوحد آمالهم في منطقة ما، حتى وإن كانت في الصين.