الملحق الثقافي- عدنان شاهين:
التبعيّة معادلةٌ باعتبار طرفيها، فالطرف الأقوى لا يكاد يرى الطرف الأضعف إلّا ساعة التشغيل والاستئجار، ومن هنا يبرز استعلاء المتبوع ودونيّة التابع، فبالانحناء أمام الريح تُزرع البذرة الأولى لتقمُّص شخصيّة التابع واستمراء تبعاتها.
وعلى روائز الأخلاق ليست إلّا تحرُّراً من أوليّات حياة الكائن المغلوب في ظلِّ إيمان الأقوياء بتدفُّق الأخلاق من فوَّهات البنادق كما يقول نعوم تشومسكي Noam Chomsky . وما إن يتجلبب التابع بعباءة التبعيَّة حتى يصير من الصعب عليه أن يتفلَّت من منظوماتها، وأمام تلك الظاهرة، ونتيجة لانتكاسات الأمَّة العربيّة بفعل ارتهانها للغرب، بادر الكاتب حسن إبراهيم أحمد لدراسة التبعيّة باحتمالاتها في كتابه«التبعيّة – إشكاليّة السيادة المنقوصة والتنمية المعاقة «دراسة أفقيّة»» الصادر عن دار كنعان في دمشق ٢٠١٥ بجهد بارز، مستغرباً ثبات الواقع العربيّ، وتغيُّر واقع بعض الأمم التي تعيش ظروفاً مُشابهة. وعلى هذا فكلَّما بقي العربيّ رهين إنتاج الآخرين، لا يخطرَنَّ ببالك أنَّ تغيير المواقع لعبةٌ تروق للمُهيمنين، بل يعرقلون نزوعَك حتى في مرحلة التخيُّل؛ وإن كان لا بدَّ من رفع حجاب الزَّيْف فليكن لأنَّ المُتغطرس تحكمه الوقاحة، والتبعيّة تلغي عامل التروِّي قصد الابتعاد عن الارتكابات المُؤذية لأنَّ الخداع يزيِّن طريق الخديعة، ولعنة التبعيّة تصير وَرَماً قاتلاً عندما تُغيَّب عقولُ الجماهير عن الاستيعاب والفهم، وخلاف ذلك أي معاكسة الخصم انتصار لحزمة الأخلاق التي يؤمن بها الطرف المخاصِم، وفي هذا الموقف نزوع إلى الكرامة شرط ألّا نُضِّيع طرف الخيط بأوهام حقوق الإنسان بمقاولاتها المُعلَنة، وأطبَّاء بلا حدود في مكان، وتغيُّبهم المقصود بعيداً عن أسرَّة الأمواج، ووسائد شواطئ الموت، فتيقَّنْ من أنَّ رفض التبعيّة عمليّةٌ عقليّة تضيء منعطفاتٍ أُطفِئت مصابيحُ إنارتها بالتوارث، وغدا محظوراً حتى الهمْس بها إلّا إذا كان احتيالاً، ونتاج مطابخ ربيع أزهرت ورودُه بدماء من حُرِّروا من أرواحهم بحجَّة الحريّة.
ويحذِّر الكاتب من كارثيّة التبعيّة الثقافيّة، لأنَّها تتداخل بالطباع، فتصير دائمةَ التأثير، وأهدافها لا تكون مضمونةً إلّا بالبيئات التي ترفدها الجموع المُغيَّبة بالأوهام، وأنصح بقراءة (مذكِّرات مستر همفرM.Hempher الجاسوس البريطاني في البلاد الإسلاميّة).
وفي ظلِّ ما نراه من حرق بلدان، وتدمير أخرى، وتخليق مجموعات عبثيّة السلوك، وغرائزيّة الاستلحاق، تتلفَّت النفوس صوب الأمم المتَّحدة باعتبارها مُخلِّصاً، لكنَّ خيبة الأمل تكون مُفجعةً، عندما تكتشف أنَّها محظيَّةُ المتبوعين.
ويرى الكاتب التبعيّة صغرى وكبرى؛ أمَّا الصغرى فتظهر برؤوس اقتصاديّة أو عسكريّة، أو معارضات للإيجار خارج المفاهيم الأخلاقيّة، ويرى في الغزو العسكريّ، والهيمنة الاقتصاديّة أهمَّ عاملين للتبعيّة الصغرى.
أمَّا التبعيّة الكبرى فهي معادل الغزو الثقافيّ، وكي نكون قادرين على ولوج العصر، ورفع راية الحداثة، لا بدَّ من الحفاظ على مخزوننا الثقافيّ، وإسهاماتنا الحضاريّة التي نراها تُدمَّر وبإشراف العالم المُتقدِّم وتخطيطه، فالتابع أو من يُراد له أن يكون تابعاً يمتلك بإرثه الحضاريّ وسائل صفع المتبوع الذي عَيْنُه على انتقاص السيادة وانتهاك الأوطان، تساعده مجموعات لمَّا تتحرَّرْ من عقليّة الثأر.
والقصف الثقافيّ تؤازره وسائل التكنولوجيا، وجاذبيّة العولمة تحدث شرخاً في رؤى الناس وقناعاتهم، لذلك يجب استنفار وسائل التصدِّي وأوَّلها وربَّما أهمّها العامل اللغويّ، دون التفريط أو التهاون في الاكتفاء الذاتيّ على صعيد الأمن الغذائيّ.
فالدول المتبوعة لا تجد حَرَجاً في التخلِّي عن تابعيها عندما تريد أن تبدِّل ثوبها، مُجترحة طرائق استتباع جديدة، فالقوى العظمى كما يقول الكاتب (تحتاج إلى توابع أُجرِيت لهم عمليّات إخصاء فكر وكرامة، واستئصال للغدد التي تنتج شرفاً ووطنيّة) ص٨١
وما إطلاق المُعالَجِين كيميائيّاً لإقامة إمارات؛ وبأكثر الأساليب خَساسة إلّا طرائق خراب كانت مُؤجَّلة، تخفِّف من وِزْر المسؤوليّة الأخلاقيّة، وتوفير نزف دماء وأرواح مُجنَّديهم، وبهذا تنتقل المؤامرة من حدِّها المستور إلى العلن، لذلك نلحظ في سوق الاستلحاق تنافس الأقوياء في استتباع الضعفاء، في وقت كان فيه خجولاً حين تلطَّى المستشرقون وراء أهداف وهميّة – وظاهرة الاستشراق برأي إدوارد سعيد أداة من أدوات الاستعمار لاستغلال الشعوب – جذبت إليها المريدين، لذلك لا بدَّ من عقلٍ وعاقلين، فالتابع كائنٌ إلحاقيّ يتلاشى بغياب المتبوع.
وما يثير الدهشة تبعيّة خالعي قميص الإيديولوجيا من مُثقَّفي أقصى اليسار الذين يدهشوننا بانتقالاتهم مُؤكِّدين تلاقي خطَّي المؤامرة المتوازيين!!
ولقد تشبَّعوا بتبعيّة إراديّة لنُظَرائهم من الغربيِّين! وبذلك تتناسل الأزمات لأنَّ من يديرها مثقَّفون مأزومون،
وثقافة الغرب مُوظَّفة بقوانينها ومنظَّماتها لترسيخ الهيمنة الغربيّة، ولا تعجزهم عمليّات تجميل القبح، وجراءة السَّحق كي تبقى قلوب الرافضين على مقلب الشعوب ترتجف رعباً فـــ (معايير الغرب هي التي تُفْرَضُ على الشعوب، ومن يخالف يلقى مصير العراق وأفغانستان وليبيا، فإنَّ هذا يشي بعنصريّة غربية تستبدل عنصريّة يدَّعي الغرب الحرب عليها. ويقع في الذروة من ذلك ما تفعله إسرائيل وحماية الغرب لها) ص١٨١
ومع ذلك نرى تدافعاً غرائبيّاً للانضواء في صفوف التابعين على الرغم من أنَّ أذى المتبوع يطول المُتمرِّد والتابع معاً.
ومن كلِّ ما تقدَّم تَوَضَّحَ لنا أنَّ التبعيّة إلغاء، فتدمير وطن لتمرير أكذوبة، لا يكون إلّا خارج متن الديمقراطيّة، مهما زيَّنتِ المنابر الربيعَ العربيّ، لذلك ولكي نتحرَّر من لعنة التبعيّة لا بدَّ من تضحيات، فالحياة وقفة عزٍّ، والثورات لا تكون انفعاليّة بل تخطُّ بدائلها في كتاب الحياة كي يوقِّع عليه الطامحون إلى المستقبل بدمائهم وإيمانهم بمجتمع العدالة الحقيقيّة، وقد نوَّه الكاتب بإظهار أسباب تردِّي وتراجع الفكر العربيّ برأي المفكِّر زكي نجيب محمود إلى إسقاط مفاعيل القانون بالكرامات الشخصيّة. مؤكِّداً على (أنَّ إشاعة العدل بين الناس بضمانة القوانين، تخلق الفرد المسؤول والمتحرِّر من الخوف والظلم والانتهاك، وبذا تتحرَّر شخصيَّته من التبعيّة لمن يطلب الحماية منهم) ص٢٢٩ كيلا يكون المُؤتمَن على نزاهة القانون خَصْماً وحَكَماً، فالعدل ضمانة الجرأة، وتجييش الأحرار، والاندفاع بقامات تموت واقفة تحت سقف قانونٍ عادلٍ ومنصف بانتقالنا إلى ضفَّةٍ نتناسى فيها جلد الذات، مُصدِّقين حياة يحفُّها الأمل، وعقيدة يحدِّد مسارها التنوير، وتشتعل معها القلوب بحبِّ الوطن والإنسان.
وفي الفصل الأخير من الكتاب الذي وضع له عنوان « السوريُّون والصراع على سوريّة » فمن البَدَيهِيّات التي تتحكَّم بها حتى الغريزة مسألة الدفاع عن الأوطان، وسوريّة التي كانت ولا تزال في مرمى الأطماع، وتكسير كبرياء من صاغ أجدادهم للبشريّة أبجديتها الأولى، وتحطيم معابد من لا تزال حضارتهم قصيدةً على وتر الصحراء، لذلك نرى حشود المتسلِّحين بالصواريخ، وأوهام الحوريّات، على أبواب سورية، – وسوى الروم خلف ظهرك روم – .
فاختلاط الرؤى والمفاهيم يُذكِّر بنهر الجنون، لكنّ طائر الفينيق يصفّق بأجنحة سورية المُوحَّدة.
ويطلق الكاتب صرخة غضب بعد نهر الرماد، وحرائق الضغائن، وموت المصادفة مُتمنِّياً على شرفاء العالم وأوطاننا خاصَّةً أن يملؤوا قلوبهم وعقولهم بالحقد على السياسة الغربيّة انطلاقاً للخروج من التبعيّة.
وبهذا يكون الكاتب قد حاصر التبعيّة بمفاهيمها ومعاييرها وآفاقها فاتحاً طريقاً للخروج منها، والتخلُّص من تبعاتها، بعدما غدت مسألةً اعتياديّة، إلى حدٍّ تواءمت فيه الأدوار، فلم تعد سُبَّةً بفعل تسويق الفضائيّات إيَّاها التي يرى إعلاميُّوها في التهريج اختراقاً، وخوفي أن يكون ذلك إيذاناً بما هو أعظم!!
العدد 1152 – 25-7-2023