الملحق الثقافي- أيمن المراد:
العولمة -حسب عدد من الباحثين- مسار وسيرورة تاريخية مركبة ومتعددة الأبعاد والأقطاب، أو هي اتجاه مستقبلي ثقيل وقوي يؤثر في جميع الأنساق في المنظومة الكونية.
كما أنها أيضاً ديناميكية موضوعية تدفع جميع المجتمعات المعاصرة -بما فيها القوى المعولمة الكبرى الرئيسية كالولايات المتحدة الأميركية-على ظهر هذا الكوكب-الوطن-على حد تعبير إدغار موران-تدفعها إلى إعادة هيكلة متعددة الأبعاد والمستويات والوتائر لقيمها وهياكلها ونظمها وقوانينها ومؤسساتها، حيث غيرت ديناميكيتها مضامين مفاهيم ومسلمات كثيرة موروثة عن قرون النهضة الصناعية وعملية التحديث الموروثة عن عهد الأنوار الأوروبية ومسلمات الدولة القومية الحديثة، مثل مفاهيم الزمان والمكان والدولة والهوية والمواطنة والديمقراطية والحدود والسيادة والاقتصاد والعمل والقيمة…الخ. حتى أضحى كثيرون يتحدثون عن أن ما يشهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة خاصة، عبارة عن مرحلة انتقالية تاريخية ومنعطف تاريخي غير مسبوق تمر به البشرية، معبرين عن ذلك: نهاية، ما بعد، بلا، عابر، متعدي، متعدد.
كما تؤدي ديناميكية العولمة إلى حدوث ردود فعل متباينة إزاءها قبولاً ورفضاً وانتقاء أي تأرجحًا بين الرفض والقبول، بحسب الموقف والمصلحة والفهم وتفاوت القدرة على التمييز بين حقائقها وأوهامها، بين جوانبها الدعائية الأيديولوجية وجوانبها الموضوعية، فانقسم المختصون بين قائل إنها جزء من استراتيجيات لقوى سياسية وعسكرية دولية كبرى، وقائل إنها تطور انتقالي نحو موجة حضارية ثالثة على حد أطروحة ألفن طوفلر ودانيال بيل وغيرهما.
يبدو أن الشمولية- في ظل العولمة الراهنة- قد لبست حلة جديدة مع محاولات الأمركة وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ومن خلال تنامي ظاهرة التركز المالي والمعرفي والإعلامي والثقافي والغذائي والدوائي،من خلال أمثلة استحواذ واحتكار وهيمنة شركات متعددة الجنسيات وبعض الميريارديرات (نحو 360 ميليارديرًا) على مقدرات شعوب بمجملها مثل:الإمبراطوريات الخاصة لـ: بيل غيتس وروبيرت ميردوخ وبيرليسكوني وماكدونالد وسي.إن.إن وشركة أول-تيم ورنر ومونسونتو ولاقاردير وداسو..وخطورة تلك التركزات على مستقبل الحرية والتربية والقانون والعدالة. وخاصة أن العديد من تلك الشركات متخصصة أصلاً في قطاعات الكهرباء والإعلام الآلي وصناعة السلاح والمياه والهاتف والبناء،محولة الإعلام والتربية والتعليم إلى مجرد بضاعة وميداناً للتنافس الرأسمالي ومنه اختراق ووضع اليد على المنظومات الثقافية الأخرى. والأسئلة التي تنبت على حواشي الواقع في علاقة بالمشهد العربي:
كيف يمكن مواجهة الاختراق الثقافي الكوني في ظل راهن يتعولم اقتصادياً وسياسياً..؟ هل ندير ظهرنا لهذا الغزو ؟
كيف يمكن خلق توازنات تحمي أجيال المستقبل من مداهمات الثقافة المعولمة واختراقاتها في ظل هذه الثورة الاتصالية الوافدة من الغرب، وما يتخللها من تنميط سياسي متعدّد الوسائل والأشكال..؟
ألسنا مدعويين هنا..والآن إلى لحظة مكاشفة صادقة مع النفس لتجاوز مطباتنا وتفعيل واقعنا وعقلنة ملامح المستقبل..؟
إنّ الخوف من غزو ثقافي كوني لم يعد له مسوغ، وهو ليس من قبيل الأوهام التي تعودنا عليها، بقدر ما هو حقيقة ثابتة ومؤكّدة أملتها ظروف وملابسات تاريخية لها عميق الأثر في واقعنا العربي خاصة والدولي عامة نورد منها ما يلي:
– انهيار القطب الاشتراكي وتفكّكه وما تلاه من انهيارات متلاحقة أصابت دول المنظومة الاشتراكية ما أفضى إلى تحكّم الرأسمالية في اقتصاد الدول النامية وإخضاع هذه الأخيرة لتبعية اقتصادية موغلة في التسلط والاستغلال.
– في عالم الثقافة الكونية هذا،برزت شركات متعددة الجنسيات تستغل المصالح الاقتصادية، وهذه الشركات أقوى من الدولة حيث تفوق ميزانياتها الدخل القومي لكثير من الدول النامية، وقد ملأت الحيز الثقافي في إعلامنا واستطاعت تلوين العالم بأفكارها وثقافتها.
– اتفاقية – الجات – التي تحوّلت إلى منظمة عام 1995 وأصبحت تبعاً لذلك ضلعاً أساسياً في مثلث الهيمنة الغربية(صندوق النقد-البنك الدولي-الجات)وهذه الاتفاقية تفسح المجال للغزو الثقافي الأميركي والغربي عامة الذي أساسه إنكار وإقصاء الثقافات القومية للشعوب الأخرى، وبالتالي أمست تشكّل تهديداً خطيراً لثقافة وتطوّر العالم النامي في كل المجالات الأخرى..
– في ظل العولمة ومع توقيع اتفاقية-الجات-أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات ومنها-والت ديزني-أقوى من الدول بعد حدوث انفصال بين المصالح الاقتصادية العملاقة والأنظمة السياسية المحلية، وأصبحت تبعاً لذلك تمارس ضغوطاً من أجل التأثير على القرارات السياسية الداخلية في الدول التي تمارس فيها أنشطتها..
– نجاح العولمة في خلق أجيال منبهرة بالسلعة الثقافية الأميركية، الشيء الذي يهدّد بتخلّف صناعة السينما لدينا وغيرها من الصناعات الثقافية..
– إنّ لهذه المعطيات التي ذكرناها عميق الصلة بخلخلة الواقع العربي وجعله ينوس بين طرفي الإنغلاق والانفتاح دون الالتفاف حول هذا الواقع وعقلنته بما يؤسّس لاستحضار الذاكرة لدى الإنسان العربي، ولعل في قولة فلاديمير لينين خير دلالة لما نحن بصدد الإشارة إليه:»شعب بلا ذاكرة،هو شعب لا مناعة له»..
فكيف يمكن في ظل الراهن الثقافي الكوني تأكيد الذات وإثبات الهوية والمحافظة على الأصالة بما من شأنه أن يبلور الصورة الحقيقية لحضارتنا..؟
هل نحن مطالبون وأمام المد الكاسح للتكنولوجيا من جهة، والعولمة من جهة أخرى، بإعادة البناء الفكري للمجتمع عبر إحياء الماضي ومصالحة الراهن واستشراف المستقبل؟..
إنّ إقصاء الأنا..للآخر وانغلاقه على ذاته طمس للهوية الفاعلة والمؤسسة،كما أنّ الانفتاح المحافظ على الأصالة والحضارة العربية تأسيس للذات، ولذا بات لزاماً على المثقفين العرب خاصة وعلى الشعوب العربية عامة إعادة النبض إلى التاريخ، وذلك من خلال فعل المواطنة وتجذير قيم الهوية باعتماد التنمية الثقافية للمجتمع كشرط أساسي لنجاح التنمية في مجالات الحياة كافة، ثم المساهمة بشكل فعّال في بناء بعد الذاكرة العربية، والسعي لصياغة الواقع العربي الراهن وفقاً لمقاييس التقدّم قصد الانتقال من الوضع المتخلّف حضارياً،إلى الوضع المحقّق لإنسانية الإنسان..
على سبيل الخاتمة:
علينا أن ندرك أنّ النظام الدولي ليس نظاماً أحاديّاً بالرّغم من تعاظم القدرات الأميركيّة.فليس بمقدور واشنطن التحدّث باسم المجتمع الدولي الذي يبدو منقسماً أكثر من أيّ وقت مضى على أسس ثقافيّة وحضاريّة.فخلال مؤتمر عقد في جامعة Harvard عام 1997 تمّ الكشف على أنّ أكثر المثقّفين في الصين وروسيا وأفريقيا والعالمين العربي والإسلامي ينظرون إلى واشنطن على كونها تمثّل خطراً على مجتمعاتهم.أضف إلى ذلك أنّ أكثر دول العالم ترفض التدخّل الأميركي في شؤونها الداخليّة.ولقد أشار إلى ذلك رئيس جنوب إفريقيا الراحل نلسون منديلا بقوله:لا يمكننا أن نقبل بقيام دولة ما بدور شرطي العالم.
خلاصة القول إنّ السياسة الدوليّة مرتبطة اليوم بصراع الثقافات أو أنّها تعكس هذا الصراع.الثقافة هي السلاح الوحيد المتبقّي أمام دول العالم في ظلّ نظام العولمة، فالإرث الحضاري يمنع، مثلاً،على الصين الشعبيّة وروسيا مجاراة الولايات المتّحدة في نظرتها إلى الأزمات الدوليّة، وباختصار شديد، فالنظام الدولي هو نظام أحادي ومتعدّد القطبيّة في آن معاً.
أخيراً، تبرز العولمة في سياق مفارقة تاريخيّة كبيرة.ففي الوقت الذي سمحت وسائل الإعلام التي فجّرتها ثورة الاتصالات لجميع سكّان المعمورة بالتواصل المادي عبر الحدود،بدأت المجتمعات الإنسانيّة تدرك أكثر من أيّ زمن مضى أنّ الهويّة الثقافيّة لا تكتمل إلا إذا كانت مرجعيّتها الوطن والدولة والأمّة، فإذا استطعنا الإجابة عن السؤال التاريخي: من نحن؟ لأمكننا التنبّه إلى مخاطر العولمة ومواجهتها والاستفادة منها من منطلقات إرثنا الحضاري وعلى قواعد العقلانيّة والديمقراطيّة.
العدد 1152 – 25-7-2023