ثمة موضوعان في التعبير كانا مطلوبين عادة من تلاميذ المدراس الابتدائية كافة في مادة الإنشاء والتعبير الأدبي، وهما موضوعان لا ينساهما أي طالب في حياته الدراسية على الأغلب.
الموضوع الأول، يسأل أي الفصول أحب إليك، ولماذا؟
أما الموضوع الثاني فهو أين تحب أن تعيش في الريف أو في المدينة، ولماذا؟
وفي الإجابة والكتابة كان جميع التلاميذ يرون أن فصل الربيع هو فصلهم المفضل، وكذلك العيش في الريف باعتباره يمثل حالة الطيبة والبساطة والجو الجميل، لكنني وفي كلا الموضوعين اخترت ما يخالف أقراني التلاميذ لأرى أن جميع الفصول لها مكانة وحب لما لها من ارتباط بعضها بالبعض الآخر، إذ إنها تمثل الثمار والتجدد والارتواء والجمال، لكن فصل الصيف يبقى المفضل عندي لأنه يعكس مرحلة الجني والحصاد وفيه تبدو غلال العمل، فكل ما يقدمه المرء من عمل يظهر جلياً في فصل الحصاد.
وذهبت وقتذاك كذلك إلى اختيار المدينة مكاناً للسكن والإقامة رغم هدوء الريف ونقاء أجوائه وبساطة العيش فيه وكثرة الأقارب، إلا أن المدينة تمثل الجانب الأرحب من الحياة لما تزخر به من مكتبات ومدارس وجامعات ومسارح ودور للسينما واستقبالها لكل الكتب والصحف العالمية ما يعطي الإنسان الكثير من عوامل الدعم العملي والأدبي ليكون قادراً على العطاء والمشاركة.
ولأن خيال الطفل يكون خصباً وبريئاً فقد ذهبت في الحديث في كل موضوع عن أسباب التفضيل التي كانت تدفع بالمعلم للطلب إلي قراءة كل موضوع على مسمع من جميع الطلاب وتخصيص كامل وقت الدرس لمناقشة ذلك الرأي الذي لا يتطابق مع حالة الطيبة والبراءة التي يحياها الأطفال وهم يحلمون ببناء قصور كبيرة فوق مساحات مخضوضرة دوماً لا يعكر صفوها رائح أو صاد تكون مرتعاً للمرح والحبور والسعادة في الوقت الذي يلاحق التعب والعناء حياة الإنسان من المهد إلى اللحد في صراع ومعاناة لا تعرف التوقف.
وتمر السنون بتقلباتها لتكون فصول السنة ميدان مبارزة ومنافسة في العمل والأداء واختلاف النتائج، في الوقت الذي تزداد ضغوط الحياة اليومية في المدينة، فتقتل في كل يوم قيمة نفسية، وتحجر حيناً جانباً روحياً نما وكبر مدة طويلة ليسقط عند الصدمة غير المتوقعة، وتدفع بأبناء المدن للبحث عن ملجأ لهم بين مزارع الأرياف يهربون إليها طلباً للراحة وهروباً من ضوضاء المدينة ساعين لتعويض ما يعتقدون أنه فاتهم، فيما يغدو الريفي صباحاً إلى ضوضاء المدينة وملوثاتها طلباً للرزق أو سعياً للحصول على خدمة طبية يفتقدها لتستمر دوامة الحياة دون الوصول إلى الرضا المنشود.
مع نهاية المواسم الدراسية يتبارى الأطفال للحديث عن ضيعهم وقراهم الجميلة، ويحزن أبناء المدينة لأن لا ضيع تنتظرهم متناسين أن مدينتهم وإن كانت عاصمة الكون، إلا أنها تبقى ضيعتهم الأهم.