يقول الكاتب (جورج أورويل): “هل نحن ما نقرأ أم نقرأ ما يريدوننا أن نقرأ؟” هذا الاقتباس يلقي الضوء على تساؤل مهم يتعلق بعالم القراءة، والثقافة في المجتمعات الحديثة: فهل فعلاً نحن الذين نسيطر على اختياراتنا القرائية، أم أننا مجرد أدوات يتم استخدامها لنشر رؤى الآخرين وآرائهم؟ وما مدى حريتنا في الاختيار في عصر المعلومات ووفرة المحتوى، فهل ما نقرأه هو بالفعل من اختيارنا الشخصي، أم أن هناك عوامل أخرى تؤثر على تحديده؟
في زمن الإعلام الحديث، والتكنولوجيا الرقمية، يتعرض الفرد لتدفق هائل من المعلومات، والمحتوى الذي يتم تقديمه عبر وسائل الإعلام المختلفة، ومع تزايد عدد الكتب المتاحة عبر شبكة المعلومات، وكذلك مقالات الصحف والمجلات، والمدونات، ومواقع التواصل الاجتماعي يصبح من الصعب على الفرد اختيار ما يقرأه، وما يتجاهله ما لم تكن له توجهات محددة يبحث عنها دون أن يلتفت لسواها.. فتلك النوافذ الحديثة تلجأ إلى استخدام استراتيجيات، وتقنيات لجذب قرائها، مثل العناوين المثيرة، والصور الملفتة للانتباه ما يؤدي إلى اختيارات قراءة قد لا تتوافق تماماً مع اهتمامات الفرد.
هذا وتعتبر وسائل الإعلام، ودور النشر من أهم الجهات التي تؤثر في اختيارات القراءة للأفراد، فهي التي تقرر ماذا يتم نشره والترويج له، وهي التي تعمل أيضاً على تشكيل اهتمامات الجمهور حيال قضايا معينة، وتوجيهه نحوها، وبالتالي، يمكن القول إن الفرد قد يصبح ضحية لتوجهات، وتأثيرات من الشركات، والمؤسسات الإعلامية.
ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن للقارئ أيضاً دوره النشط في عملية القراءة، فهو الذي يقرر ما عليه أن يستجيب له، وما يمكن أن يتجاهله، وإذا ما اعترض طريقه أي محتوى فقام بتحليله، وتقييمه، والتفكير فيه بعمق، فهو عندئذ ما يزال قادراً على تشكيل وجهة نظره الخاصة به لتوسيع آفاقه الفكرية بالشكل الذي يريد من خلال القراءة المتنوعة، والنقدية، خاصة إذا ما استخدم قدراته في البحث، والاستكشاف للعثورعلى مصادر لمعلومات موثوقة، واستفاد عبر شبكة المعلومات من المشاركة في مناقشات، ومجموعات قراءة لتبادل الأفكار والآراء، والتواصل مع مَنْ هم خبراء في المجالات التي يهتم بها.
وبالعودة إلى سؤال (أورويل) “هل نحن ما نقرأ أم نقرأ ما يريدوننا أن نقرأ؟” فالإجابة عليه ليست ببساطة (نعم)، أو (لا).. ذلك لأنها مسألة تتطلب توازناً بين تأثيرات الوسائل الإعلامية، وشركات النشر، والدور النشط للقارئ المستقل في ذاته، وفي اختياراته لما يقرأه، وكيفية استيعابه له وتفسيره، وبتوجيه وعيه نحو اهتمامه حتى لا يكون منساقاً وراء ما يُطرح في طريقه ليتناوله بسهولة دون نظرة نقدية، أو استجابة سلبية، أو رؤية تحليلية.
صحيح أن لدينا الآن حرية أكبر في الوصول للمعلومات مقارنة بالماضي، إلا أن هناك العديد من الآليات التي تعمل على توجيه اهتمامنا نحو محتوى معين دون آخر، فمحركات البحث، ومنصات التواصل الاجتماعي تستخدم خوارزميات معقدة لتقديم المحتوى الذي يهمنا بطريقة ما بناءً على بيانات تفضيلاتنا، وسلوكنا عبر (الإنترنت).. ولهذا لا نستطيع أن نعتبر حريتنا في اختيار ما نقرأ مطلقة إذ يترتب علينا بذل جهد إضافي لنقفز خارج الإطار الذي بات يُفرض علينا حتى نفوز بقراءة موضوعية قدر الإمكان.
على الرغم من أن اختياراتنا الشخصية تلعب دوراً أساسياً في تحديد ما نقرأه، إلا أن هناك عوامل أخرى تؤثر على تحديد محتوى هذه القراءات ومنها إضافة إلى وسائل الإعلام والنشر هناك عوامل تسويقية تعمل على جذب انتباهنا وتلقي بتاثيرها الإعلاني القوي علينا فنلتفت إليها ولو لم تكن من ضمن اهتماماتنا الأساسية، وطالما أن للقراءة تأثيرها على أفكارنا، وسلوكنا، ومعتقداتنا، وقيمنا، والعين التي نرى بها العالم، فإن كتاباً واحداً يمكن له أن يلهمنا، أو أن يغيّر طريقة تفكيرنا في الحياة، وحيال أنفسنا.
بالإضافة إلى ذلك تلعب العوامل الاجتماعية دوراً مهماً في تحديد محتوى قراءاتنا، فالضغط الاجتماعي، والتوجهات الثقافية، ومثلها السياسية قد تؤثر في اختياراتنا القرائية عندما نشعر بضرورة مواكبة بعض الموضوعات الرائجة، أو القضايا المهمة في المجتمع حتى وإن كانت خارج اهتماماتنا الشخصية، وقد نجد أنفسنا نقرأ مواداً تتعارض مع أفكارنا بسبب التأثير الاجتماعي، ورغبتنا في التواصل مع الآخرين، والاندماج في المجتمع. وعلاوة على ذلك، تلعب الإعلانات دوراً كبيراً في توجيهنا عندما يتم استخدام تقنيات الترويج المتقدمة ذات التأثير القوي.
وإذا كانت العوامل الشخصية متمثلة بالرغبات، والتجارب السابقة تعتبر أساساً لاختياراتنا، فإن ما يُقرأ يساهم بالتالي في تشكيل الوعي، والشخصية، ويؤثر على مَنْ نكون ذلك لأنه يغذي الأفكار، ويسعف الخيال، ويساعد على فهم أعمق للعالم، ويعمل على التعلم، والنمو، والتغيير. كذلك فإن للمؤثرات الخارجية أيضاً دور لا يستهان به في ظل المعلومة السريعة والخاطفة، والأخرى العميقة والهادفة، فإن من الأجدر بنا بعد كل هذا أن نحصن أنفسنا تجاه هذه المؤثرات حتى لا نُساق كالأغنام وراء ما يُراد لنا لا ما نريده نحن حقاً.