على مدى العقود القليلة الماضية شهدنا تطوراً ثورياً في التكنولوجيا أكثر ما تجلى بظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي غزت حياتنا اليومية. ومع ازدياد مستخدميها، وما تتيحه كمنابر لتقديم الأفكار، والتفاعل الاجتماعي ظهر من بين الآثار السلبية المترتبة على هذا التطور ما نال من لغتنا الأم، اللغة العربية التي نعتز بها، ونعتبرها وعاء إرثنا الحضاري.
في الماضي غير البعيد كانت فرص التعبير محدودة، ومقتصرة على الوسائل التقليدية مثل الصحف، والمجلات، والتلفاز، والإذاعة، وكان من الصعب على الأفراد العاديين الوصول إلى هذه الوسائل للتعبير عن أفكارهم، وآرائهم بحرية، وحتى لو نجحوا في الوصول فيجب عليهم أن يتكيفوا مع القيود المفروضة من قِبلها، وكان عليهم أيضاً اتباع معايير محددة لا يجوز تجاوزها، أما (السوشال ميديا) فقد أعطت الأفراد تلك الحرية المفقودة في اختيار كيفية تقديم أنفسهم بالطريقة التي يحبون، لقد تغيرت وبسرعة ديناميكية هذه الفرص تماماً مع ظهور شبكة المعلومات، ومنصاتها.
مساحة للتواصل الحر غير المسبوق أعطتها (السوشال ميديا) للأفراد، شجعت على كتابة المنشورات، والتعليقات، وفتحت آفاقاً جديدة للتعبير عن الآراء، وعن النفس بطرق فردية، والخوض في النقاشات السياسية، والثقافية، والاجتماعية، كما تبادل وجهات النظر مع الآخرين. ومع تطور الحوار أصبح غالبية المستخدمين ممن يحبون الظهور، وجذب الانتباه إليهم يشاركون بجرأة ملفتة تجاربهم الشخصية حتى أوشكنا أن ندخل إلى بيوتهم، ونتجول داخل غرفهم بحجة خلق تواصل أكثر عمقاً، وتفاعلاً بين الأفراد لتنتفي بالتالي الخصوصية بطريقة غير مسبوقة، فتغيب فكرة الحفاظ عليها كواحدةٍ من القيم الأساسية التي نشأنا عليها.
ومن هذه المنابر، أو المنصات ما أطلقت أيضاً حزمة من السلبيات الأخرى لنتعرف من خلالها على ممارسات اجتماعية لم تكن شائعة لدينا كما حالها قبل عهد التواصل الاجتماعي اللامحدود، ومنها نشر الأخبار الزائفة وسرعة تداولها بشكل مباشر وفوري، والترويج للشائعات، والمعلومات غير الموثوقة، وتعزيز التحيّز والكراهية، كما التنمر الذي يتعرض له الناس دون مبرر، وينعكس تأثيره على الصحة النفسية، والعاطفية.
وعلى رأس تلك السلبيات مجتمعة تأتي اللغة العربية أغلى الكنوز التي تملكها الثقافة العربية بتاريخها العريق، وجماليتها.. لغتنا الأم التي تعرضت من خلال هذه المنصات، ووسائل التواصل للنيل من هيبتها عندما أصبحت عرضة للكثير من الأخطاء الإملائية، واللغوية.. فهل هذه الوسائل فضحت حال المستخدمين من حيث ضحالة معرفتهم بلغتهم عندما عكست الواقع اللغوي الحالي، والتحولات التي تحدث في المجتمع؟ أم أنه سوء استخدام لها يعود إلى الطبيعة السريعة، وغير الرسمية في التواصل، والتي لا تتطلب تصحيحاً، ولا تدقيقاً، ولا مراجعة لما يُكتب مما يعزز من دور الخطأ؟ وعلى افتراض أن هذه المبررات صحيحة فما الذي يبرر تكرار الخطأ ليرسخ مع الممارسة مكان الصحيح؟ بل إن تلك الأخطاء تتسبب في تشويه المفردات بما تحمله من معنى لتؤثر بالتالي سلباً على جودة المحتوى، وتقلل من مصداقيته، وتكرارها يؤدي إلى انتشارها في المجتمع، ويؤثر على المستوى اللغوي الذي يتعامل الناس من خلاله فيصبح ضعيفاً، هشاً. ولو أدرك مَنْ يخطئ أهمية اللغة السليمة، والتعبير الواضح في التواصل الفعال، والتفاهم المناسب بين الأفراد لما تأخر عن تعزيز قدرته على التعبير الصحيح دون أخطاء يُشار إليها.
وما بالنا أيضاً بالعامية التي أخذت تتمدد وتتعمق حتى كادت تطرد الفصحى، وتغيّبها.. فهل في هذه الحال نلوم (السوشال ميديا) بأنها السبب الرئيسي وراء انتشار ضحالة اللغة لدى الناس، خاصة أنها توسعت بشكل كبير حتى أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، أو أن نحقد عليها لأنها فضحتنا؟.. أم أنها بريئة من هذه التهم لأنها ليست أكثر من وسيلة للتواصل وكأنها مكان للتسلية يجتمع فيه الناس ليتعارفوا ويتحاوروا، ويتآلفوا، والأصوات التي ترتفع في المكان إنما تعبّر عن حقيقة أصحابها؟
فهل هذا سوء استخدام أم فضيحة؟.. أم أن سوء الاستخدام قد بلغ حد الفضيحة؟
* * *
التالي